أديب وأكاديمي وناقد أدبي وباحث في الإسلاميات
كثيرة هي الكتب التي تدفعها المطابع كل يوم عن القرآن وتفسيره والاستفادة من تعاليمه، ونادرة هي الكتب المتعلقة بالتربية القرآنية ، والتعامل مع القرآن من منطلق يتجاوز كونه كتاب عقيدة وتشريع شامل ، إلى كونه كتاب الحياة كلها، حياة المرء والأمة . ولعل مقولة الشاعر العظيم محمد إقبال تثري ما نقول ، عندما ذكر نصيحة والده له : " اقرأ القرآن كأنه يتنزل عليك " (2). ولك خيل أن تتعامل مع الآيات المعجزة ، كأنها تخاطبك أنت ، وتتناول وقائع حياتك أنت ، وتجيب عن أسئلتك أنت ، وتدفعك إلى المعرفة والاستزادة منها وبها ولها ، وساعتها سيصحو المرء منا على القرآن ويقضي لحظاته متدبرا ، مترنما . وكما يوضح المؤلف (3): " لو لم تكن حاجة الإنسان إلى القرآن بلغت ذروتها، لما أرسله الله إليه، إنه رحمة من الله بالإنسان، ونور حلّ على ظلمتـَي الإنسان والأرض معاً " (4)، فالبشرية في أشد الاحتياج للقرآن ، فكم أضلتها كتب كثيرة ، وعبثت بها تشريعات ، وعبث البشر بتشريعات ربانية منزلة بالكتب السابقة ، فجاء القرآن كتابا محفوظا سليما من التحوير ، على مدى الأزمان ، ليسد حاجة الناس في كل صعيد وفترة ومكان .
ومن هنا ، وكما يشير المؤلف في ثنايا كتابه : فــ " إن التلقي القرآني هو عملية فض الغلاف عن لب الكلمة لبلوغ المعنى، هذا المعنى الذي تستخرج منه التدبّر الذي يُصلح لك شأنك، وهكذا تراك مرتقياً في قراءة القرآن لأنك تتلقى من كل قراءة معنى جديداً، تستخرج منه تدبّراً يُصلح لك شأناً جديداً من شؤون حياتك، وعلى قدر ما يجعلك ذلك مواظبا على قراءة القرآن، يقف قارئ القرآن غير الفاض عن اللّب غلافه دون ذلك وهو يغدو قليل القراءة لأنه وقف أمام مبنى القرآن، دون أن يلج باطنه " (5)، نجد هنا إشارتين مهمتين : الغلاف والمعنى ، فصارت الكلمة غلافا ويجلو المعنى التدبر ، فالتدبر الذي هو التلقي الدائم المعمق للقرآن قائم على فض إيحاءات الآيات ، والكلمات ، ودلالات السور .
أيضا ، شتان بين القرآني والدنيوي ، فالناس مشغولة بشؤون معاشها وهؤلاء هم الدنيويون ، أما القرآني فهو مشغول بما حفظه وما يسترجعه ، غير منصرف عن دنياه ، بقدر ما يأخذ دنياه إلى قرآنه ، أو يجعل قرآنه في كل زمن ومكان في دنياه ، حتى إذا أسند شقه الأيمن ، وتوجه إلى الله ، متمتما ببعض الآيات قبل أن يخلد إلى نومه، سيكون في غاية الراحة لأنه خلد إلى النوم حاملا القرآن في حنايا صدره ، فإذا شاء الله أن يقبض كان القرآن شاهدا وشفيعا له، وإذا شاء أحياه ليوم جديد ، استيقظ وهو طامح أن يجعل يومه الذي مُدَّ في أجله سبيلا للاستزادة القرآنية : فهما وتفسيرا وتطبيقا ، وأيضا سلوكا وتعاليم ووصايا وإرشادات .
وستكون قراءتنا لهذا الكتاب في محاور عديدة ، تستهدف تغطية ما فاضت به أسطره ، وأوحت به عباراته ، وفاحت عبيرها من كلماته .
بنية الكتاب :
عندما نتعرض للبنية ، فنحن نلج بالمنظور الكلي أو الرأسي ، وهذا يساعدنا في فهم خطة الكتاب ، ناهيك عن محاوره ونقاطه الرئيسية ، فقد انقسم الكتاب إلى قسمين رئيسين، حمل الأول عنوان : نور السـماء إلـى ظلمة الأرض ، وشمل ستة فصول ، سعت إلى تغطية هذا العنوان ، الذي فيه الكثير من الحس الأدبي، والتناص مع القرآن الكريم ، فقد نُعِت القرآن والإيمان كثيرا بنعت مشترك وهو النور، مثلما نعت الكفر بالظلام ، أما الفصول فقد سعت إلى تبيان هذا العنوان ، فشملت محاور وهي : كتاب التحولات الكبرى ، حدود الله .. حدود الناس.. في القرآن ، خصائص العلاقة بين الإرسال الإلهي والتلقي البشري ، قارئ القرآن وفقــــه الموقــــــف، معالم الطريق ومنعرجات الفوضى ، التلقي القرآني وترويض النفس .
وكما نلحظ فإنها تبدأ بتبيان الحدود التي أنزلها الله تعالى في كتابه المقدس ، ثم حدود الناس في الحياة كما أبانها القرآن ، ونرى أن المؤلف ابتدأ بالرؤية الكلية ومن ثم انحدر تدريجيا إلى الجزئيات ، فقد تطرق إلى طبيعة العلاقة بين الوحي والبشر ، واستخدم في ذلك لفظة " التلقي " ، الذي يعني – فيما يعنيه – كيف يعي المسلم القرآن ، شفاهة وسماعا ورسما مكتوبا ، وأيضا كيف يعيه فهما وإدراكا ، فالقراءة من المكتوب والشفاهة من المسموع ، من أهم سبل تلقي القرآن الكريم (6)، وكذلك سائر العلوم الإسلامية الناشئة حوله . ومن خلال التلقي ، بدأ في عرض علاقة قارئ القرآن بالحياة في مواقفها وفقهها ، وسلوك الطريق السوي في الحياة ، والتعرف على معالم الخير ونبذ منعرجات الشرور، وأيضا سبل ترويض النفس وتهذيبها قرآنيا .
وجاءت نعوت المؤلف للقرآن بأنه : " كتاب تشريعي، تنويري، فكري، تعبدي، تأملي، معرفي، حقوقي، رباني، إنساني، وهو كتاب الدنيا بامتياز، إلى جانب أنه كتاب الآخرة بامتياز، فهو يخاطب الناس الأحياء، وموجه إلى الأحياء، ويتوارثه الأحياء، وينتفع به الأحياء، بالدرجة الأولى " (7)، ليكون القرآن كتابا تشريعيا لشؤون الدنيا ، وعقيديا وتربويا لشؤون الآخرة .
أما القسم الثاني ، فهو يتمحور حول " فضل القرآن على الإنسان " ، وهنا تكون الصورة التطبيقية ، بمعنى أن القسم الأول نظري ، والقسم الثاني تطبيقي ، سعى المؤلف فيه إلى التبيين من خلال المواقف والأمثلة والدلائل ، لآثار القرآن على المرء المسلم ، والحياة ، والمجتمع ، والأمة ، كما نقرأ في عناوين الفصول : " حاجة الإنسان إلى القرآن ، ارتقاء قارئ القرآن في درجات متعة العطاء ، قارئ القرآن ومهارة قوة الملاحظـة القرآن الكريم ومنهج الحياة ، مشكاة قراءة تدبرية لـ سورة البقرة" ، وقد جاءت صياغة الفصول من خلال الأسلوب الجزل ، والأمثلة الواقعية، والاستشهاد بالقديم والحديث من الحديث الشريف ، والسيرة العطرة ، والتاريخ الإسلامي ، وأيضا من العلوم الحديثة ، لنخلص إلى أن القرآن سبيلنا للخير، كل الخير في حياتنا ، وأننا به نرتقي ، ونسمو ، ناهيك عن الإثابة والأجر ، والأهم أنه وضع القرآن في موضعه الصحيح ، وأظن أن هذا هو غاية الكتاب ، بأنه يجعل صلة المسلم مباشرة ، دون وساطة ، بالقرآن الكريم ، فيقرأه المسلم ، ويعيه، ثم يستعين بما يشاء من تفاسير وعلوم ليعرف المزيد ، أي أن يعيش المسلم في القرآن فيتخذه صاحبا ، وأنيسا ، ومدرسة ، وجامعة ، وبيتا وسكنا ، ومن ثم صار القرآن سببا في تشكل الحضارة الإسلامية ، وكما يشير المؤلف بأن للقرآن الكريم أثره الجلي على سائر ألوان وأجناس الآداب والفنون الإنسانية، ويمكن أن نصنف مرحلتين انعطافيتين: مرحلة ما قبل نزول آي القرآن، ومرحلة ما بعد النزول، فإذا نظرنا إلى الآداب والمناهج الفكرية الإنسانية، التي اتسمت بالنبوغ، نراها لا تتمتع بالمزايا التي تمتعت بها في مرحلة ما بعد انتشار القرآن الكريم في الناس. وهذا أمر طبيعي في مواكبة الفكر، والمنجز، ومحطات تطور العبقرية البشرية، لأسباب وعوامل ومستجدات التطور (8)، وتلك رؤية جديدة ، فعلينا أن ننظر إلى المعارف والعلوم التي أبدعها البشر في حضاراتهم المتعاقبة ، وما جادت به حضارة الإسلام المؤسسة على القرآن ، ناهيك عن العلوم التي استقت نبعها من هدي القرآن مثل التاريخ والفلسفة الإسلامية ، والجغرافيا (9) ، فكلها نهلت من النبع القرآني ، والخطأ الذي يسقط فيه كثير من المسلمين أنهم ينزعون الرؤية القرآنية عن علومهم، ولا يخاطبون البشرية علميا من خلال التصور القرآني .
وكما يقرّ المؤلف : " كنتُ دوماً عندما أقف أمام تشريع الله، أو نهيه، في القرآن الكريم، أرى أن هذا الإرشاد إنما هو توجيه للإنسان، حتى يفقه الحياة التي يعيشها، يتجنب العبثية في مسيرة حياته، وهو إرشاد من خبير يعلم ( السر وأخفى ) " (10)، فجوهر رسالة القرآن / الإسلام ، أن الإنسان لم يخلق عبثا ، وإنما هو عابد ، متعبد، عليه رسالة عظمى ، تتمثل في نشر التوحيد ، وعمران الأرض .
ومتى وعى كل مسلم ، الفرد أولا ، ثم الأسرة ، والجماعة ، والمجتمع ، ثم الدولة، ثم الأمة كلها ، كل هؤلاء وعوا بدورهم القرآني ، فإنهم سيتحولون إلى طاقات إيجابية ودعوية وحضارية ، لها كل الأثر في التاريخ الإنساني .
فرادة الموضوع والهدف :
مفهوم الفرادة يعني : الاختلاف ، والجدة ، والإضافة ، في الجانب النظري، عما هو حالي وسابق، ويعني أيضا الجانب العملي والسلوكي في الحياة ، لتكون المحصلة ، تنظير شاف للعقل ، وتطبيق شاف للروح والسلوك .
إن الكتاب فريد في مؤلفه ، فالأستاذ عبد الباقي يوسف ، أديب وباحث متعدد الاهتمامات ، وتأتي فرادته في كونه اضطلع بتأليف كتاب عن القرآن ، مستندا إلى تجربته السردية الممتدة، وأيضا إبحاره في ميدان المعارف والعلوم المختلفة ، فجاء كتابه جامعا بين الحس الأدبي ، والمشاعر المرهفة ، والتعامل السامي ، والثقافة المتعمقة المتبحرة .
وهذا الكتاب فريد في موضوعه ، و في بنيته ، وفي عناصره ، ففرادته نابعة التي هي محور الكتاب ، فالفكرة الأساسية لهذا الكتاب تتمثل في النظر إلى الحياة مع القرآن، كيف يعيش المسلم مع القرآن ، وكيف يعيش القرآن معه . ربما يتخيل البعض أن هذه فكرة ليست بجديدة ، وحتى لو افترضنا هذا ، إلا أنه لم يتم تعميقها بالشكل الكافي من قبل ، بحيث يصبح القرآن – الذي هو لب الإسلام وأساس ثقافة وحضارة المسلمين – سبيلا للتربية ، ونهجا في المعايشة اليومية، والمعايشة الحياتية، وأيضا سلّما للترقي الإيماني ، والسمو الخلقي والروحي للمسلم .
وقد أبان المؤلف من مقدمته ، حيث يتناول : " صلب العلاقة بين مقومات حياة الإنسان، وبين القرآن الكريم، الذي كلما يُقرأ، ترسخت تعاليمه في النفس، وبذلك يتمكن الإنسان أن يتجاوز القراءة الظاهرة لهذا الكتاب المبارك، إلى تلقي معانيه، ومن خلال هذا التلقي القرآني، يرتقي بسلوكه الإنساني، على قدر ارتقائه في درجات تلقي معاني القرآن "(11)، فهناك جملة أمور نقف عندها : أن القرآن مصدر للإيمان والتعاليم والسمو الروحاني ، وأن الوعي بهدي القرآن لن يكون بالترتيل الآلي، وإنما بالغوص في معانيه ، فتصبح المعاني تعاليم ، وتترسخ التعاليم في النفس، ومن ثم يرتقي المسلم . فالمؤلف يعيدنا بطرحه إلى معين الإسلام الصافي ، لتكون العلاقة بين المرء والقرآن علاقة وطيدة ، سرًا وخبيئة بين العبد ومُنزِل القرآن .
وهو لن يتحقق إلا بالتدبر ، والتأمل ، ومصاحبة الآيات ، والعيش في حياضها، ومن ثم ننظر إلى الأثر النفسي الناتج عن ذلك . حيث يقرر مؤلفنا : " إن قارئ القرآن المتدبّر ، يتمتع بحالة هائلة من الاتزان البدني، والنفسي، والاجتماعي، والعقائدي، والفكري، والاقتصادي، يقرأ وقائع الحياة قراءات قرآنية. يتلقى الأنباء السارة والحزينة، وفق المخزون القرآني الكامن في أعماقه، إنه كائن لا تزحزحه أعتى الرياح، يستمد حصانته من صلب علاقته القويمة بالقرآن " (12)، مما يثير قضية غاية في الأهمية ، وتتصل بالتربية القرآنية للمسلم ، التي تجعل القرآن حاضرا في بصر وبصيرة وذهن المسلم ، كلما وقعت حادثة أو مشكلة أو قرأ واقعة تاريخية أو علمية أو اجتماعية .. ، فإنه يخرج مما اختزنته أعماقه قرآنيا ، ما يجعله يعي ما يصادفه ويعاينه من المنظور القرآني . وبالتالي نعيد فهم قوله تعالى : : { وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا }(13)، وقد جاء في تفسير الآية أن القرآن " يذهب ما في القلوب من أمراض ، من شك ونفاق ، وشرك وزيغ وميل ، فالقرآن يشفي من ذلك كله . وهو أيضا رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه ، وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه ، فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة " (14).
فالقرآن شفاء للقلوب من أدرانها وأحقادها ، والعقول من أسقامها وحيرتها وتشتتها، والروح من تقلباتها ، وفوق ذلك ، سيتراحم المؤمنون لأن القرآن بركة ورحمة بآياته إذا تليت ، ورحمة لكل من سمعه وتعامل به واستحضره .
ويكون السؤال : وهل هذا فريد ؟ وكيف؟ والجواب بالإيجاب ، لأننا تعاملنا مع القرآن في أسوأ الحالات بأن نجعله مهجورا، وفي أحسن الأحوال نقرأه آناء الليل وأطراف النهار ، ونحفظ آياته ونصلي بها، ونرتلها في وردنا اليومي ، ولكن القضية تتخطى هذا ، وتبني عليه دون ريب، حيث يصبح القرآن نهجا في الرؤية والعمل ، وساعتها سينعم المؤمن بالراحة الكبرى، في مختلف أحواله ، لأن صلته مع الله سبحانه وتعالى مباشرة ، فالله تعالى يكلّم العبد بالقرآن ، والعبد يناجي ربه بالدعاء ، والله تعالى يرشد عبده كلما استحضر الآيات القرآنية في سائر شؤونه ، والعبد يلوذ بكلام ربه في كل ما يعنّ له .
يقول الأستاذ عبد الباقي يوسف:" إن القرآن الكريم هو دليل الإنسان إلى معرفة الله، وإلى معرفة مقاصده في تشريعه، ومن ذلك انفجرت ثورة التفسير، التي يسعى المفسر من خلالها إلى محاولة لبيان مقاصد الله (15)، فلن يعي المسلم الشريعة مادام يهجر كتاب الله ، ولن يعي أي تفسير دون الرجوع إلى المصدر القرآني ، والتفاسير تعددت ، وكما يسميها المؤلف " ثورة التفاسير " ، لأن التفسير عنوان لتفاعل العقل المسلم الواعي المدرك المتدبر – مع العلم والإحاطة باللغة والعلوم الشرعية – مع الآيات القرآنية .
ولاشك أن هناك إدانة صريحة ضد هؤلاء المسلمين الذين يعيشون بلامبالاة وخمول في حياتهم ، وهذا الأمر ينطبق أيضا على جماعات ودول مسلمة ، وكانت سببا في الركود الحضاري الذي أصاب المسلمين جميعا .
فاللامبالاة يقول مؤلف الكتاب :" في أمور صغيرة، تؤدي إلى لامبالاة في أمور كبيرة، والاستمرار فيهما يؤدي إلى لامبالاة مطلقة تجاه كل خصائص وميزات إنسان اجتماعي يتسم بقيمة الأخلاق، ثم في مرحلة لاحقة إلى فقدان المسؤولية كاملة تجاه نواميس الحياة برمتها (16) ، وقد يكون مصطلح اللامبالاة صادم ، ولكنه واقع ، فمسلمون كثر تركوا رسالتهم القرآنية على الأرض ، وانهمكوا في الملذات أو التبلد الحسي والعلمي.
القرآن والتغيير :
ونعني به : أن القرآن الكريم قادر على إحداث التغيير في الفرد والمجتمع والأمم والحضارات . والسيرة النبوية والتاريخ يخبرانا بذلك ، فقد حوّل القبائل البدوية القاطنة في الجزيرة العربية من عرب رحّل إلى مؤمنين مهديين ، ومن ثم توحّدوا تحت راية النبوة ، وتحلت قلوبهم بالإيمان ، فاندفعوا لينشروا الإسلام في الأرض ، وتمكنوا من فتح غالبية الأقاليم المعروفة في زمانهم ، ومن ثم استطاع القرآن أن يقيم حضارة تالدة ، ظهرت عظمتها في الحواضر الإسلامية مثل بغداد والقاهرة ودمشق وفاس، والأهم أنها انطلقت برؤى القرآن ، وصيغت علومها بلغته .
وبالتأكيد ، فإن ما صلحت به أحوال المسلمين في أول حياتهم ، ستنصلح به أحوالهم الآن ، وفي القادم من الزمان .
وهذا ما أدركه مؤلفنا ، حيث أشار إلى أن " القرآن يمتلك المقدرة على تغيير الناس بشكل نافذ، بحيث ينقل شخصاً ما من تاريخ عريق في الإلحاد، إلى تاريخ عريق من الإيمان، من إنسان سلبي يقف على تاريخ من الجور، إلى إنسان يشرق بنور إيجابيات الفطرة الإنسانية. إنه كتاب التحولات الكبرى في حياة الإنسان، إلى جانب أنه كتاب التحولات الكبرى في سلسلة المنجزات البشرية على مختلف الصعد"(17)، وهي نظرة نحسبها شمولية ، لأنها ارتأت أن القرآن ليس كتابا فحسب، ولا مصدرا للتشريع ، وإنما هو قادر بآياته على أن يغير النفوس والأمم ، وهذا ما درك عليه الرسول والجيل الذهبي الأول ، قرن الرسول من صحابته الكرام ، حين كانوا يحفظون الآيات ، ويطبقونها لحظة بلحظة ، ويوما بيوم .
"فعندما نقرأ القرآن، نصبح أكثر معرفة بأنفسنا، حيث يقدم لنا القرآن الكريم مكوّنات النفس، يقدم مزاياها، تركيبتها، ميولها. كما يرشد القرآن قارئه الماهر كيفية قيادة النفس" (18) وهذا مصداق لقوله تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } (19)، وينقل ابن كثير عن قتادة في تفسير الآية : قال قتادة: من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة (20)، فإن التفكر لا يشمل الكون برحابته، ولا العالم البشري حولنا بتعدده ، وإنما يبدأ بالنفس ، والجسد ، والذات ، فإذا أدرك المسلم نفسه ، وعرف جوانحه ومطامع جوارحه فله أن يتعمق فيما حوله ، فقد انفسح عقله على داخلها وخارجها .
أيضا ، فإن متلقي القرآن ، يستشعر سمو المعاني والقيم ، فالرحمة مثلا وردت في القرآن في عشرات المواضع ، إلا أن المؤلف يزيد في فهمها فيقول : " فالإنسان يجوز له أن يكون رحيماً، كما يصفه الله، وهي رحمة إنسانية محضة، بيد أنه لا يمكن له أن يكون رحماناً، بأي مقياس من المقاييس، وذلك لشمولية معاني ودلالات هذا الاسم، المقتصر على الله وحده عزوجل " (21) . وهنا يبزغ مفهوم قرآني غاية في السمو ، يتصل بأسماء الله الحسنى ، ووقعها في قلب المسلم الذي يتوقف أمام الرحمة المطلقة كما تتجلى في الذات الإلهية ، ويشتق منها أن يكون العبد رحيما، وهو موقن أن النموذج السامي اللامتناهي في الرحمة الذي يقرأه في القرآن يكون مع المولى جل وعلا ، فهو الرحيم الرحمن بسائر مخلوقاته .
مع الأخذ في الحسبان أنه : "ليس بالضرورة أن يرتقي كل قارئ مع كل قراءة، بل قد تكون قراءة سلبية، فينحدر من درجة سابقة كان قد بلغها، لأن القرآن ليس كتاباً سهلاً، وليس بوسع الإنسان أن يبني علاقة قرائية نورانية معه، إن لم يستعد لذلك بدنياً وروحياً ومكانياً، ولا يفتح القرآن الكريم مرآته للقارئ، إلاً إذا كان متأهباً ومتأهلاً لهذا الفتح" (22) ، وتلك هي الوجهة الأخرى إذا تقاعس المسلم في قراءته ، أو جعلها تلاوة آلية ، ففي هذه الحالة سيرتد إلى الدرجات السفلى ، وهكذا تكون العلاقة طردية بين العبد والقرآن ، على قدر اجتهاده يسمو ، وعلى قدر ركونه يتأخر .
يقول: "إن قراءة القرآن التدبرية تجنّب الإنسان كي يبقى هامشياً لامعنى لوجوده، إنها تعلمه كيف يتواصل مع سائر الفعاليات والمقومات الاجتماعية والإنسانية، فيشير ذلك إلى حضوره، كما أن غيابه يشير إلى فراغ" (23)، وهذا بعد مهم ، لأن القرآن حافز للمسلم على أن يكون مبرزا متميزا ، لا يعرف هامشية ولا ركونا ، ونفس الأمر مع الدولة المسلمة والحضارة المسلمة ، لا يمكن أن تكون على هامش التاريخ أو خارج السياق العالمي والدولي .وكما يقرر المؤلف بأن "هناك أبطال كجنود مجهولين يعيشون في كل أحياء ومناطق وعواصم وبقاع العالم، بيد أنهم يُعرفون بمواقفهم، على الأقل في نطاقات ضيقة، حتى لو كانت مقتصرة على أسرهم "(24) ، وهؤلاء هم الدعاة الذين يبذلون الغالي والرخيص من أجل نشر الدين ، سواء مع فرد أو مجموعات قليلة ، المهم أن ينال المثوبة وشرف الدعوة .
فالإسلام لا يعرف الشخص السلبي ، وإنما يعرف الإيجابي ، يقول : " فالإيجابيون هم الذين يجعلون من الحياة مادة قابلة للعيش، إنهم مصابيح الهدى. محظوظ ذاك الذي يجد كائنا يميل إليه كل الميل، ويتعلق به كل التعلق، ويتفاعل معه كل التفاعل"(25). فقارئ القرآن المتدبر إيجابي ، والعالم والداعية في قمة الإيجابية .
المعايشة مع السور القرآنية وآياتها :
أورد المؤلف تفسيرا لبعض السور القرآنية ، كنموذج للمعايشة القرآنية ، يستهدي به من يتلو الآيات المعجزة ، ففي سورة الفاتحة التي يرتلها المسلمون في سائر صلواتهم نجدها جامعة كل الخير ، يعلق المؤلف عليها بقوله : " سورة مترابطة، متكاملة، لا تقبل التجزؤ: أولها رحمة، وأوسطها هداية، وآخرها نعمة. عندما يبلغ الإنسان الصراط المستقيم، فإنه يبلغ الطمأنينة، وليس من سبيل إلى الطمأنينة الروحية، سوى سبيل الصراط المستقيم "(26)، فالسورة مناجاة ، وحسنا فعل المؤلف بأن توقف عندها، ونظر إليها كوحدة مترابطة كلية المعنى والأثر ، والمتمثل في الطمأنينة الروحية ، وبتكرار التلاوة للفاتحة ، مع التأمل الدائم في مضمون دعائها ، يتحقق الالتزام بالصراط المستقيم .
يقول: " ندرك بأن الإنسان يرتقي في درجات تلقي معاني القرآن الكريم على قدر ما يتمكن من توظيف طاقاته العقلية بشكل إيجابي، فيمسي القرآن بالنسبة إليه كتاب تحولات كبرى في محطات حياته، وعن ذاك يُقال عنه بأنه إنسان عاقل" (27).
ويقول : "إذ يتميز الإنسان دون سواه من مخلوقات الأرض، بلسان بليغ، يمكن أن يرفعه إلى درجات متقدمة في صفوف البشر، ويمكن أن ينحدر به إلى درجات سفلى من درجات الخزي" (28) .
ويطرح المؤلف عدة أمثلة من القرآن الكريم ، موضحا أن النظرة للمثل القرآني "تكمن في لغته الرمزية وسعة معانيه، التي تنطبق على أشخاص بعينهم، دون ذكرهم بالاسم، وهنا يبقى المثل مفتوحاً، وقابلاً لإنسان أي زمان ومكان، فالمثل - مهما بلغ من قِدم - يستمد تجدده من الحدث الجديد، والواقع الجديد " (29) فالمقصد من ضرب المثل في القرآن – { إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } (30)هو التعقل، والتدبر، والتفكر ، المثل هنا يمنح فسحة للتعقل، وأخذ العظة(31) مصداقا لقوله تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}(32) .
وعندما يتعايش المسلم مع هذه الأمثلة والقصص ، فإنه يستحضرها في كثير من لحظات حياته ، عندما يجد موقفا مشابها ، أو يحتاج إلى عبرها وعظاتها .
كما تعرّض المؤلف أيضا إلى سورة البقرة ، وامتدت وقفته في ظلالها إلى عشرات الصفحات ، استظل بفيئها ، ونعم بما فتح الله عليه بها ، لذا هو يؤكد أن " سورة البقرة هي سورة منهج حياة جديدة، لمجتمع يستمد تجدده من ثنايا هذه المقومات الجديدة، التي تشرعها وتنصها وتؤسس لها هذه السورة. إنها تقلّب كل الموازين والأعراف السائدة رأساً على عقب، وتسن لهذا المجتمع ما يميزه ويجعله متألقاً ومتأهلاً لنشر رسالة بلوغ الدين درجة الكمال، وإتمام نعمة الله على الإنسان " (33)، وهي قراءة كلية المقاصد لهذه السورة متعددة الموضوعات والقصص والإرشادات والأحكام ، التي حفلت كتب التفسير بشروحاتها الجزئية ، ونحن في حاجة لشرح كلي
السور القرآنية .. رؤية مكانية كونية :
ونعني بها كيف نظر المؤلف إلى القرآن المنزل في مكة والمدينة ، إنه يرى أن الحكمة الإلهية شاءت أن يتنزل القرآن في مكانين ، مكة حيث القبلة ، والمدينة حيث تأسيس الدولة المسلمة ، فالعلاقة بين مكة والمدينة هي " علاقة تبادلية وتكاملية "
ففي مكة كانت أولى الآيات على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفي الهجرة لمرحلة انتقالية جديدة من مراحل نشر الدعوة ، لقد لبث في (المدينة)، بيد أن العلاقة بدأت تأخذ تكامليتها، لأن القبلة لبثت في (مكة)، وهذا يرمز بأن الرسالة هي ليست مكية فحسب، بل هي مدنية أيضا، والمدينة هنا ترمز إلى رحابة العالم، إنها ليست المدينة المنورة فحسب، على قدر ما هي المدينة الكونية، هنا يمكن أن أقول بأن الإسلام منذ هذه المرحلة بدأ في النداء العولمي ، من أجل أن يكون عالم الإنسان عالما واحدا، مع الحفاظ على خصوصيات المجتمعات (34)، ومعلوم أن مكة تتوسط العالم بموقعها الجغرافي المتميز في قلب كوكب الأرض ، وأن المدينة لها نورانية الإشعاع ، حيث اكتملت الدعوة والدولة ، وكانت مركزا للحكم ، وفيها قبر حامل القرآن ومبلغه ( صلى الله عليه وسلم ) .
أيضا ، فإن الرؤية المكانية تتجاوز إلى الكونية ، " ربما من أهم التحديات التي تواجه الإنسان لحظة يبدأ وعيه بالتشكل ( كونيا ) ، هو أنه يرى نفسه أمام وقائع حياتية متناقضة، ليس بوسعه أن يعيش في معزل عن مؤثراتها. هنا يكتشف مدى حاجته إلى ترويض النفس على استيعابها، والإحاطة بها، والوقوف موقفاً وسطيا أولياً منها، حتى يستقر الحدث، ومن ثم يأخذ موقفه المعتدل من واقع هذا الحدث"(35) ، فالتغيير في الكون والعالم حولنا لن يبدأ بالماديات كما يظن الإنسان الغربي الحديث ، وإنما يبدأ بالوعي الداخلي للإنسان ، بأن يقهر نوازعه وشهواته، ويروضها ، ومن ثم يندفع إلى الكون / الأرض / العالم / الناس .
فتاريخ الإنسان يثبت بأنه كائن مقاوم، فقد استطاع أن يبني الأرض، ويقدم ما يستطيع في سبيل أن يجعل من الأرض مسكناً صالحاً له. ومن جانب آخر، فقد تأججت نزعة الشر لدى فئات كثيرة من الناس، وهذه الفئات، التي تمضي وفق ما يملي عليها الشيطان، تبتغي نشر الفساد والطغيان في الأرض والناس معاً(36)، هذا هو الإنسان العادي ، فما بالك لو كان مسلما قرآنيا واعيا بعقيدته ورسالته .
000000000000000000
|