( ما أن يغادر الرؤساء الأمريكيون مناصبهم حتى يتحولوا الى " ملائكة وقديسين " يطالبوا خليفتهم في القصر الأبيض بتخليصهم من الذنوب التي ارتكبوها بحق ضحاياهم ، فبعض الأحياء منهم يطالبون الآن برفع الحصار الاقتصادي عن كوبا وهم الذين ساهموا في فرضه وشيطنة قادته والسعي للاطاحة بهم. وهم بدءا من دوايت أيزنهاور ومرورا بآل بوش وانتهاء بأخرهم أوباما لم يترددوا عن تشديده لتجويع واذلال الشعب الكوبي لاجباره على التخلي عن نظامه الاشتراكي وقيادته ، لكن على العكس أثبت شجاعة وقدرة نادرة على الصمود والاصطفاف مع قيادته ضد العقوبات الأمريكية التي فرضت بالضد من القوانين الدولية وارادة المجتمع الدولي للعام السادس والخمسين على التوالي.))
في الثاني من كانون الثاني \يناير عام 1959 انتصر الكوبيون بقيادة الرئيس الشاب فيدل كاسترو وآخرين بينهم أرنستو تشي جيفارا ثوري أرجنتيني المولد ونجحوا في اقامة دولتهم الوطنية المستقلة الحرة من النفوذ الأمريكي. فبعد أن فشلت محاولات اسقاط الحكومة الثورية بالغزو والتآمر فرضوا الحصار الاقتصادي عليها وأوقفوا التبادل التجاري معها ، ففي عام 1959 كانت 73% من صادرات كوبا و70% من وارداتها تتم مع أمريكا ، لكن كل ذلك قد توقف فجأة. كان هذا هو الهدف المعلن أما الأهداف غير المعلنة فهي مصادرة القرار الكوبي بالتحرر من التبعية السياسية والاقتصادية للامبريالية الامريكية التي كانت تتعامل مع الجزيرة الكوبية كاحدى المنتجعات الأمريكية الخاصة تديرها كما تشاء مستخدمة الكوبيين خدما. ومنذ ثورتها في عام 1959 وحتى ديسمبر الماضي كانت العقوبات قيدا على التنمية الكوبية كجزء من الضغوط لافشال السياسة الاشتراكية الرامية الى تحسين حياة الشعب الكوبي حتى لا تكون التجربة الاشتراكية الكوبية مثالا ناجحا تحذو حذوه دول أمريكا اللاتينية المتطلعة للخلاص من الهيمنة الامريكية الغاشمة.
كانت الولايات المتحدة على علم تام بأن كوبا ستعاني من مصاعب اقتصادية كبرى بنتيجة انهيار الاتحاد السوفييتي الشريك الاقتصادي والداعم الأمين لها. وبدلا من اسداء المساعدة للجزيرة الكوبية الجارة الغارقة بمشاكل هي وراءها ذهبت في الاتجاه المعاكس ، فشددت من عقوباتها الاقتصادية والسياسية بهدف اجبارها على التراجع. فإبان حكم الرئيس بوش الأب عام 1989 بدأ تطبيق عقوبات اقتصاديّة غير متصورة في ظل الحضارة الانسانية السائدة. ومن بين تلك العقوبات المثيرة للسخرية والقرف أنه إذا رغب مصنّع سيّارات يابانيّ أو ألمانيّ أو كوريّ بيع إنتاجه في السّوق الأمريكيّة فينبغي عليه أن يُثبت مسبقا أنّ مصنع سيّاراته لم يُستعمل فيها النّيكل الكوبيّ (لأن كوبا مصدرة مهمة لهذا الصنف من المعادن ) والا قد يجد صاحب المصنع نفسه معرَّضا للسّجن لمدّة عشرة أعوام ولغرامة يمكن أن تبلغ مليون دولار.
ومن عجائب الاستعمار ورذائله أن يصادق الكونجرس الأمريكيّ على قانون توريشلّي (Torricelli) الذي يضاعف العقوبات المسلّطة على الشّعب الكوبيّ وأعطاها صفة التطبيق حتّى خارج أراضيها رغم أنّ القانون الدّوليّ يمنع ذلك. فمنذ عام 1992 صارت كل باخرة أجنبيّة مهما كان مصدرها ترسو بموانئ كوبا تتعرّض إلى عقوبة الحرمان من دخول الولايات المتّحدة لمدّة ستّة أشهر وهم على معرفة بأن كوبا بكونها جزيرة تعتمد طبيعيّا على النّقل البحريّ.
وفي عام 1996تبنّت إدارة الرئيس كلينتون قانون هلمس - برتن (Helms - Burton) الذي يجعل تطبيق العقوبات خارج الحدود بأثر رّجعيّ وهو ما يمنعه القانون الدّوليّ أيضا، لكن لا أهمّيّة لذلك بالنسبة للولايات المتحدة. حيث ينصّ هذا القانون على معاقبة كلّ مؤسّسة (بما في ذلك غير الأمريكيّة) تمارس أنشطة فى العقارات الامريكية المؤمّمة بعد عام 1959..( وللعلم فان كلينتون قد انضم للمطالبين برفع الحصار عن كوبا اخيرا).
وفي عام 2004 بدأ بتقييد السفر الى كوبا ففي الوقت الذي كان فيه لكلّ أجنبيّ مقيم بالولايات المتّحدة الحقّ في السّفر إلى بلده الأصليّ متى رغب في ذلك أصبحت هذه الإمكانيّة منذ 2004 غير متاحة للرّاغبين في السّفر إلى كوبا إلّا بعد الحصول على ترخيص من الإدارة. كما حُدّدتْ مدّة الإقامة بأربعة عشر يوما كلّ ثلاث سنوات بدلا من سفر سنويّ واحد كما كان معمولا به من قبل.
وفي نفس العام وبعد ضغوط من ماكس بوكوس (Max Baucus) النّائب عن ولاية مونتانا آنذاك كشفت الإدارة الأمريكية سنة 2004 أنّها أنجزت بين 1990 و2004 ثلاثة وتسعين تحرّيا لها علاقة بالإرهاب العالميّ وفي نفس الفترة أجرت عشرة آلاف وستّمائة وثلاثة وثمانين تحرّيا من أجل"منع الأمريكيين الشّماليين من ممارسة حقّهم في السّفر إلى كوبا. ويحتار المرأ في تفسير نزعة الإذاء والعداء التي يكنها الرؤساء الأمريكيون لكوبا وهم المتباهون بدفاعهم عن الحرية والديمقراطية في العالم.
وفي عام 2006 قرّرت اللجنة الأمريكية لمساعدة الكوبين في المنفى عرقلة التّعاون الطّبّي مع كوبا الذي يشكّل مصدرا هامّا للعملة الصعبة للجزيرة وذلك بمنع تصدير كلّ الأجهزة الطّبّيّة إذا تعلّق الأمر "باستعمالها ضمن برامج واسعة النّطاق "لفائدة" مرضى أجانب" رغم أنّ الجزء الأوفر من التّكنولوجيا الطّبّيّة العالميّة من أصل أميركيّ. ولقد أكّدت المفوّضيّة العليا لحقوق الإنسان التّابعة للأمم المتّحدة من جهتها على "أنّ القيود المفروضة بفعل الحظْر قد أسهمت في حرمان كوبا من الاستفادة الحيويّة من الأدوية والتّكنولوجيّا الطّبّيّة والعلميّة الحديثة".
وبدورهما عبّر الرّئيسان السّابقان جيمى كارتر وبيل كلينتون في عديد من المناسبات عن معارضتهما لسياسة واشنطن.وقد صرّح كارتر إثر رحلته الثّانية لكوبا في مارس 2011 : "ما انفككت أطلب أمام العامة وفي النّطاق الخاصّ وضع حدّ للحظر الاقتصاديّ الذي نمارسه على الشعب الكوبيّ وإلى رفع كلّ القيود الماليّة والتّجاريّة وما تعلّق بالسّفر". أمّا كلينتون فقد قال " إن العقوبات سياسة "عبثية" آلت إلى "الفشل التّام."
وصول باراك أوباما إلى الحكم أحدث تغييرا طفيفا في الموقف من كوبا. ففي عام 2009 ألغى عقوبة تحديد السّفر وتحويل الأموال المفروضة منذ عام 2004. وبلغت علامات الانفتاح ذروتها فى 10 ديسمبر 2013 بمناسبة حفل تكريم الزعيم الجنوب أفريقى نيلسون مانديلّا عندما تصافح أوباما وراؤول كاسترو مصافحة وُصِفتْ بأنها "تاريخيّة. وخلال الاجتماع السنوي للجمعية العامّة للأمم المتّحدة سنة 2013وافق مائة وثمانية وثمانون بلدا من مجموع مائة واثنتين وتسعين بلدا ومعارضة أمريكا واسرائيل فقط رفع العقوبات الاقتصادية عن كوبا للمرّة الثّانية والعشرين مذكّرين بأنّ 70 بالمائة من الكوبيين قد وُلدوا تحت هذا الحصار الاقتصاديّ الجائر.
ويقف صقور اليمين من الجمهوريين والديمقراطيين ضد قرار أوباما الأخير بتطبيع العلاقات مع كوبا فقد اعتبر الجمهوري ماركو روبيو ذي الأصول الكوبية وعضو لجنة منديز للعلاقات الخارجية اعتبر الخطوة "عبثية" والرئيس "اوباما أسوأ مفاوض في منصب الرئيس منذ (الرئيس) جيمي كارتر. وزعم روبيو ان الكونغرس لا يؤيد رفع الحصار عن كوبا، مهددا باستخدام الجمهوريين نفوذهم في حجب التمويل عن البعثة الديبلوماسية الاميركية المنوي تعيينها في هافانا بناء على قرار الرئيس اوباما. ينبغي النظر الى هذا المشهد في سياق التنافس على الانتخابات الرئاسية المقبلة 2016 ومراهنة الجمهوريين على توظيف عداء الجالية الكوبية في فلوريدا لتطبيع العلاقات لصالح مرشحيهم.
صراحة ومبدئية الرئيس الكوبي لم تمنعه يوما من انتقاد السياسة الأمريكية الطائشة ، ففي عام 2011 أدان فيدل كاسترو الطريقة التي قتل فيها بن لادن زعيم تنظيم القاعدة الارهابي قائلا " أيا كانت الأفعال المنسوبة إلى بن لادن فإن قتل إنسان أعزلا من السلاح في وجود أفراد أسرته يعد عملا مقيتا. ذلك على ما يبدو ما فعلته حكومة أقوى دولة في العالم معتبرا تصفية بن لادن خارج نطاق القانون وبدون محاكمة. وان إسراع الجيش الأمريكي في دفن بن لادن في البحر إنما يعكس الخوف والشعور بعدم الأمان. كما إن الهجوم الذي شنته القوات الأمريكية الخاصة على دار بن لادن انتهك قوانين باكستان وكرامتها الوطنية وأهان تقاليدها الدينية."
موقف فيدل كاسترو هذا لم يعبر عنه بتلك الجرأة والصراحة والعلنية سياسي واحد من دعاة حقوق الانسان والديمقراطية في " العالم الحر".
|