الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يعيش بين الأموات ذلك أن الموت صديقه الدائم، وإن عزّ عليه الصديق الميت، فلابد من أن يخترع له واحداً، يزين قبره بين الحين والحين بالحناء والبخور ويرى في الضريح الذي أمامه سلامة العقبى. ويقال إن الملوك وأوليائهم جالّون عن الصداقة، ولا تصح لهم أحكامها. أما الوفاء فقليل في أهل العلم وأصحاب القلم، ونادر جداً قول الثناء في الأصدقاء. وقد جاء في الذكر الحكيم: فما لنا من شافعين ولا صديقٍ حميم. ولو نظرنا إلى ما كتب في الصديق فلا نجد غير كتاب أرسطو وكتاب التوحيدي في الصداقة والصديق. فهناك الآباء، والأبناء، والجيران، وكل الأقرباء، أما الصديق فلا يرد له ذكر. ويمكن القول إن العصر الجاهلي هو عصر تراجيدي، إغريقي الصفات. وهذا باختصار شديد كي نعود إلى كتابنا الذي كتب قبل أربعة آلاف عام في ملحمتنا الخالدة، جلجامش. والكتاب الذي بين أيدينا اليوم كتبته الصينية يايون لي، وأهميته أنه مكتوب للأولاد، بينما نحن اليوم جهلاء بقصتنا، من أعلانا إلى أضعفنا، ذلك أن ما يفرحنا ويبكينا شيء آخر غير الخلود. عديدة هي الأسئلة في الحياة، وحينما نظفر بالإجابة على سؤال ما فإننا نتركه ولا نعود إليه. لا حاجة بنا اليوم مثلاً إلى التساؤل عن العضو الذي ينقل الدم في أنحاء الجسم. لكن ثمة سؤال واحد يلصق بنا طوال الزمن ولا نجد له من إجابة شافية. هل مازلتم تبحثون عما يجري لنا حين نموت؟ ما الجزء الذي يموت منّا، وما الجزء الذي يبقى حياً كي نرى ونسمع ونحس؟ وما زلنا ننقل سؤال طفولتنا إلى أطفالنا كي ينقلوه بدورهم إلى أبنائهم، وهكذا. وملحمة جلجامش التي كتبت على إثني عشر لوحاً من الطين هنا، في أرضنا لو تصدقون، قصة عظيمة كما تخبر المؤلفة الأولاد الناطقين بالإنجليزية. وهي قصة عظيمة لا لأنها تحكي عن أناس عظماء كجلجامش وأنكيدو، بل لأنها تخبرنا عن أنفسنا نحن الذين جئنا بعد آلاف السنين. وببساطة شديدة فإن جلجامش رجل يحب عائلته وبيته، طموح في المغامرة وكشف الأفق. وحينما يرى أنكيدو فإنه ينظر إليه صديقاً مخلصاً ورفيقاً لقلبه. يحبه ويشركه في كل حلم، وحينما يموت الصديق أنكيدو فإننا نعزي جلجامش، ونعزي أنفسنا بفقده، وهنا يظهر أمامنا السؤال: لماذا، لماذا غبت يا صديقي؟ هل موتك الآن رقدة طويلة؟ لكننا سنستيقظ يوماً ونرى أنفسنا كما كنا. أم إن موتك نزول إلى العالم السفلي حيث الماضي التعس الذي هربنا منه، وإذ لا مستقبل؟ لم ينجح جلجامش كثيراً في ضمان الخلود، لكنه استقى الحكمة من أوبانشتم، فهل نال السعادة؟ هنا لابد من أن نستقي المعرفة من الباب الموصد، وأن لا ينتظر أحدنا طويلاً على أبواب الآخرين، فالحكمة حكمتي، والتعاليم تعاليمي، والقلب قلبي، والسعادة لي. بهذا تبقى ملحمة جلجامش حيّة على مرّ العصور. قصة خالدة لا تموت. أما الصديق الصدوق لنا فهو جلجامش العصر الذي نعيش فيه، رفيق قلوبنا قبل أن يكون رفيق الدرب. الكتاب من أجمل الكتب، فهل يعنى العراقيون به؟ والجواب: كلا!
|