مسؤول..ام مراسل امني؟

 

 واخيرا، بدا كل المعنيين بالملف الامني في العراق يعترفون بهشاشته، فبعد مرور عقد كامل من الزمن على التغيير، عاد العراق يشهد اسوأ عمليات ارهابية تضرب في الاتجاهات الاربعة، تقتل الابرياء وتدمر البنى التحتية وتثير الرعب والخوف وتشل الحياة العامة.

   انهم يتحدثون عن الانفلات والخروقات الامنية، ولكن لا احد منهم يتحدث بصراحة عن الاسباب.

   وما يثير الضحك والاشمئزاز هو ان المسؤولين، خاصة الامنيين منهم، يتحدثون في كل مرة عن الخروقات الامنية بصيغة (المراسل الصحفي) وكانهم يريدون ان يخبروا المواطن العراقي عما حدث في مسرح الجريمة، ينقلون له الخبر مع بعض التفاصيل فحسب.

   فالمسؤول الامني، والكثير من المسؤولين في مؤسسات الدولة العراقية، يعتقد بان مسؤوليته تنتهي عندما يظهر على الشاشة الصغيرة ليشرح للمواطن تفاصيل ما حدث ثم يوزع التهم على هذا الطرف او ذاك، وكأن الشارع العراقي لم يعرف من يقف وراء الارهاب في العراق؟ ولماذا؟ فبين من يلوم تنظيم القاعدة الارهابي وآخر التكفيريين وثالث ايتام النظام البائد، وهكذا، ثم ماذا؟ يترك المسؤول منصة الاعلام ليعود الى منزله او دائرته بانتظار ان يسمع دوي انفجار جديد ليخرج مرة اخرى امام العراقيين ليعيد تصريحاته السابقة حرفا بحرف، وكأنه يسقط، بذلك، المسؤولية عن نفسه ويريح باله وضميره.

   العراقيون لا يريدون من المسؤول الامني ان يسرد لهم قصة الانفجار وكيف وصلت السيارة المفخخة الى مسرح الجريمة ومن الذي حرضه على ارتكاب فعلته النكراء؟ ولماذا؟ فهذه مسؤولية الاعلام الذي يؤدي اليوم رسالته على احسن وجه، انما الذي نريده من المسؤول الامني هو ان يمنع من وقوع الجريمة، فيقبض على السيارات المفخخة قبل وصولها الى مسرح الجريمة، ويعتقل الارهابيين قبل ان ينفذوا جرائمهم، ويحمي المواطن قبل ان يقتل او يجرح بعميلة ارهابية، ويحمي الوطن قبل ان يستبيحه المجرمون.

   المواطن لا يهمه كيف حدث الانفجار؟ وباية وسيلة؟ فبالنسبة الى المواطن فان الموت واحد لا يقبل القسمة على اثنين، وان الروح واحدة، وانما الذي يهم المواطن هو ان لا تتكرر الخروقات الامنية، فيأمن على نفسه وعلى عائلته وعلى اهله وعلى الناس اجمعين وعلى مصالحه، فماذا ينفع المواطن اذا خرج عليه المسؤول الامني وتحدث له عن تفاصيل الجريمة؟ هل سيقلل ذلك من الاصابات والضحايا؟ ام ان ذلك سيحمي المواطن من الارهاب؟.

   استغرب، لمصلحة من يكذب المسؤول الامني على المواطن؟ الكذب الذي فضحته عملية اقتحام وزارة العدل الاسبوع الماضي، فبينما ظل اعلام الحكومة، ومعه عدد من المسؤولين الامنيين، يكذب ويراوغ ويخفي الحقيقة، ويدعي بان القوات الامنية احبطت هجوما للارهابيين على الوزارة استهدفوا فيه السيطرة على المبنى، وانها حالت دون دخول ارهابي واحد الى مبنى الوزارة، اذا بالسيد الوزير يخرج علينا يوم امس في مؤتمر صحفي ليتحدث عن تفاصيل مثيرة لم يشر اليها اعلام الحكومة لا من قريب ولا من بعيد، فقال مثلا، بان الارهابيين احتلوا مبنى الوزارة بالفعل لمدة اكثر من (3) ساعات والسبب هو تقصير القوات الامنية التي لم تحرك ساكنا وهي ترى وتتفرج على عملية الاقتحام الارهابية بام اعينها، على حد قوله.

   الجدير بالذكر ان عملية اقتحام وزارة العدل الاخيرة هي العملية النوعية الـ (13) من نوعها التي ينفذها الارهابيون خلال الفترة القليلة الماضية، فهل درى الشارع العراقي بهذه الحقيقة؟ وهل سمع شيئا عن هذا؟ وهل تحدث اعلام الحكومة عن ذلك؟ ثم يلومون المواطن لانه بدا يفقد الثقة بالحكومة ومدعياتها واعلامها؟.

   هل يعقل ان حال الامن يتدهور من سئ الى اسوء من دون ان يبادر القائد العام للقوات المسلحة الى اقصاء ولو مسؤول واحد؟ ان كل حكومات العالم تبادر، فور وقوع جريمة ارهابية واحدة، الى اقالة المسؤول المباشر وغير المباشر عنها، وتسارع فورا الى اعادة النظر في خططها الامنية وفي المسؤولين عنها وفي طرق تنفيذها وغير ذلك، اما في العراق فالعمليات الارهابية في تزايد والضحايا في تزايد والتدمير في تزايد، اما المسؤولون الامنيون ففي مكانهم وهم هم لا يتغيرون ولا يقال احدا منهم ولا يحاسب احدا منهم، والخطط ذاتها وطرق التنفيذ ذاتها، وكل شئ على حاله.

   ترى: اي استخفاف بعقول الناس هذا؟ واي استخفاف بدماء العراقيين وارواحهم هذا؟ لماذا لم نسمع او نرى القائد العام للقوات المسلحة، حتى ولا مرة واحدة، يحمل احدا من المسؤولين الامنيين مسؤولية حتى عملية ارهابية واحدة؟ ولاقولها بصراحة ووضوح، فان الجهاز الامني في العراق فاسد وعاجز ومخترق وفاشل، سواء في الخطط الامنية او في مسؤوليه او في طرق التنفيذ، خاصة بعد ان اثبتت التجربة بان الارهابيين يسيطرون على الارض ويمسكون بها بشكل مرعب، من خلال ما ثبت لكل ذي عين بصيرة بانهم قادرون على الضرب انى ومتى شاؤوا، اي انهم ينفذون جرائمهم بالمكان والوقت الذي يختارونه، لماذا؟ الا يعني ذلك ان الجهاز الامني فاشل؟ الا يعني ذلك بان استخباراتنا فاشلة؟ الا يعني ذلك بان الملف الامني بحاجة الى حملة تغييرات؟ ما يتطلب منا جميعا شن حملة راي عام للضغط من اجل تحقيق ذلك؟.

   بعد كل عملية ارهابية يخرج علينا مسؤول امني ليتحدث بالتفصيل الممل عن حيثيات الجريمة، من يقف وراءها؟ واين تم تفخيخ السيارة؟ والطريق الذي سلكته للوصول الى الهدف؟ وكيف تم تفجيرها؟ وغير ذلك، فيا ايها المسؤول الامني العبقري، اذا كان جهازك الامني يمتلك كل هذه المعلومات فلماذا لم تبادر الى اعتقال السيارة وصاحبها ومفخخها وسائقها؟ وبالتالي لتحول دون تنفيذ الجريمة؟ لتصون دماء وارواح المواطنين؟ اليست تلك هي المصيبة؟ اما اذا قلت بان جهازك الامني او الاستخباراتي حصل على كل هذه المعلومات، القيمة، بعد تنفيذ الجريمة، اي بعد فوات الاوان، فالمصيبة اعظم، فذلك لا يحتاج للكثير من العبقرية والخبرة، دع مسؤوليتك لاي مواطن عادي وسيجمع لك كل هذه المعلومات بعد كل عملية ارهابية.

   ان المسؤول الامني البطل والشجاع الذي يستحق التكريم هو الذي يحول دون تنفيذ الجريمة، وليس الذي يجمع ويتحدث عن المعلومات بشانها بعد تنفيذها، فما قيمة المعلومة الاستخباراتية اذا لم تمنع الجريمة؟.

   نحن لا نحتاج الى مراسلين ينقلون لنا تفاصيل العمل الاجرامي بعد وقوعه، فلنا منهم الكثير الكثير والحمد لله، وانما نحتاج الى مسؤولين امنيين يسهرون الليل من اجل تامين الحماية للمواطن، مسؤولون ميدانيون لا يقودون الجهد الاستخباراتي والامني عن بعد من وراء طاولات مكاتبهم، مسؤولون اصحاب خبرة وكفاءة، لم يتسنموا مسؤولياتهم الامنية بالمحاصصة او بسبب الولاء للحزب او للقائد الضرورة، مسؤولون تسنموا مهامهم بجدارة، مسؤوون لا يبيعون ضمائرهم فيتغافلون عن الجريمة مقابل حفنة من البترودولارات، مسؤولون لا يبيعون ولاءهم لاي كان الا للوطن وللمواطن الذي تعاهدوا معه امام الله تعالى على حسن الاداء والاخلاص والتفاني في العمل مهما كانت الظروف والتحديات.

   وفي العراق الكثير من هذه النماذج القيادية والميدانية المتفانية والمخلصة وصاحبة الخبرة والتجربة والاختصاص، ولكن...لعنة الله على المحاصصة والفساد الاداري والمحسوبية والحزبية الضيقة والتمييز الطائفي والعنصري الذي ركن امثال هؤلاء على الرف فأخرهم وقدم من لا يستحق الموقع. 

   19 آذار 2013