زحام الفئران والعنف الفضائي!

في دراسة عن تأثير الزحام في زيادة معدلات العنف وضعوا عددا قليلا من الفئران داخل مكان متسع، اكتشفوا أنها عاشت في وئام وسلام، وكل فأر لا يستطيع النوم قبل أن يطمئن أن جاره الفأر سعيد، ولا شيء يعكر صفو حياته. زاد عدد الفئران داخل الحيز المكاني نفسه، فتضاءلت معدلات الود و«الحنية». ضاعفوا العدد أكثر، فبدأ الاحتكاك وزاد العنف الذي وصل إلى حدود الاقتتال.

ضيق المكان يؤدي لا محالة إلى زيادة العنف. هل من الممكن أن نجد مقابلا لذلك فيما يجري فضائيا على ساحتنا العربية؟ نعم، هناك تلامس بين الدائرتين. إنه المكان الذي ضاق بعدما تجاوزنا رقم الألف من الفضائيات الناطقة بالعربية، وأمامها في العادة موضوعات وقضايا واحدة قُطريا وعربيا وعالميا. الحدث اليومي ثابت، بل في أحيان كثيرة تلمح الضيف وهو يتنقل من فضائية إلى أخرى، ويكرر المذيع السؤال نفسه، ويرد الضيف بالإجابة ذاتها، التي صارت أقرب للوجبات جاهزة الصنع تحتاج للتسخين فقط.

مع هذا التشابه الممل، كان لا بد من البحث عن اختلاف ما، مع الأسف وجدناه أشد ضراوة، حيث أصبح الموضوع المثير هو الهدف الأسمى، ولم يسلم الأمر، والحال كذلك، من تراشقات بين مذيعي الفضائيات، كل منهم يعتقد أن التخلص من الآخر الذي يقف في نافذة الفضائية المقابلة هو الهدف، وهكذا كثيرا ما توعد مقدمو البرامج بعضهم بعضا بكشف المستور.

الصوت العالي الذي يصل إلى حالة أقرب للتشنج تستطيع أن تعده ملمحا دائما، والمذيعات مع الأسف صرن في هذا الشأن أكثر ضراوة من الرجال. كل مذيع يعتقد، ولا أدري لماذا، أنه يجب أن يتقمص دور صاحب الرأي العالم ببواطن الأمور، الذي يعرف كل الكواليس، وسحقا لكل نظريات الإعلام التي تُطالب المذيع بالحياد والموضوعية، ينتاب أغلب المذيعين إحساس يتنامى بأنه هو الذي يحرك الحياة ويغير الوزارات ويهد الحكومات، وأن الحياة تبدأ ببرنامجه، وتنتهي إلى برنامجه.

ولا يتوقف الأمر عند مقدمي البرامج. تابع حالة الضيوف الذين أصابتهم العدوى في التجاوزات اللفظية والحركية، يبدو الأمر وكأن هناك رهانا على زيادة مساحة الانفلات، وفي العادة تتحول الكلمة أو الحركة الخارجة إلى مادة على «يوتيوب» تحقق أعلى درجات الانتشار.

من الذي يهيمن على تلك المنظومة برمتها في الإعلام؟ إنه أنت عزيزي المشاهد، الكل يستغل اسمك، مؤكدا أنه يعبر عنك ويلبي احتياجاتك وطلباتك، وكثير من البرامج التي تفتح باب الخير أمام المشاهد وتحل مشاكله هي في الحقيقة تسعي لكي تستثمر ذلك في تحقيق جماهيرية طاغية، ولا يعنيها من قريب أو بعيد تقديم الحلول، بقدر ما يصبح الهدف تحقيق الإثارة.

صرنا وكأننا في سوق شعبية، والكل يعلو صوته وهو ينادي على بضاعته صارخا: «قرب قرب».

ابحث عن الدافع الحقيقي وراء كل ذلك، تكتشف أنها «تورتة الإعلانات» التي يلهثون وراءها، لم تعد مثل الماضي، تقلصت في الحجم، وهذا لعب دورا أكبر في زيادة حدة الصراع، وكالات الإعلان تلعب دور البطولة في كل التفاصيل؛ هم يحددون أسعار المذيعين، وأيضا يتدخلون في اختيار أسماء النجوم في الدراما، كثيرا ما تشعر أنهم في لحظات يعيدون «تفنيط» أوراق كوتشينة النجوم والمذيعين، وهناك بين الحين والآخر اسم جديد يتم الدفع به، أو في الحقيقة اللعب به.

وتزداد المعركة مع الزمن شراسة طالما ضاقت الرقعة واتسع عدد الفضائيات، فالعنف مع الأسف صار هو الحل في شريعة الفئران، وفي منظومة الفضائيات!