لأجل هذا استهدفوا سنجار؟ (2)

لقد تعرضت سنجار عبر تاريخها إلى عشرات الحملات العسكرية منذ دخول موسى الأشعري أطرافها في حدود 20 هـ وقبول سكانها الفتح الإسلامي دون قيد أو شرط وحتى موقعة سنجار الرهيبة عام 1057م التي ذهب ضحيتها الآلاف من سكانها بعد حصار رهيب استمر لعدة أشهر انتصر في نهايته سيد الشجعان الجبناء الجوع.
في هذه الموقعة الرهيبة كان العقيليون في البداية حلفاء للسلاجقة ولكنهم انقلبوا ضدهم حين انتصر البويهيون، ولم تمض إلا فترة وجيزة حتى أغار عليهم ((طغرل بك)) فسحقهم حتى وصل سنجار فحاصرها طويلا وقطع عنها كل ما له علاقة بالحياة وديمومتها، إلا أن أهالي سنجار تحدوا السلاجقة تحديا أسطوريا رغم معاناة الحصار وقيل: ((أنهم اخرجوا جماجم من كانوا قتلوا وقلا نسهم وتركوها مشهورة على رؤوس القصب)) فقد ((طغرل بك)) أعصابه فقرر زيادة عدته وعدده، مضاعفا حصاره الوحشي على المدينة حتى فعل الحصار فعلته وانتصر سيد الشجعان الجبناء ( الجوع ) ففتحت المدينة أبوابها عنوة تحت سياط الجوع والمرض فاقتحم السلاجقة مدينة سنجار ليستبيحوها ويمعنوا في سكانها قتلا وتعذيبا وفي خيراتها نهبا وسلبا و بعمرانها خرابا وتدميرا كما يحصل اليوم على أيدي أحفادهم الدواعش.

هكذا إذاً ومن خلال المأساة نستطيع أن نفهم تماما مدى قوة ومناعة سنجار المدينة والسكان حين ذاك، أي في بداية سنة 1057 م، ومن دراسة نتائج ومعطيات هذه الموقعة المأساوية نستدل من أرقامها كم كانت سنجار مدينة مزدهرة خصوصا إذا ما علمنا إن تعداد نفوس المدينة بعد هذه الموقعة بأكثر من تسعة قرون أي في عام 1977م لم يتجاوز إلا 12 ألفا من السكان، فالمدينة التي قتل من رجالها أربعة آلاف رجل قبل ما يزيد على أكثر من تسعمائة سنة كانت بالتأكيد واحدة من الحواضر المهمة جدا في إقليم الجزيرة، وتتمتع بموقع اقتصادي وجغرافي مهم جعلها مهمة أيضا في الجانب السياسي الذي كان سببا في كثير من الأزمان لدمارها وخرابها.

لقد بدأت واحدة من اكبر معارك سنجار عبر تاريخها بعد اتفاقية الجزائر التي أنتكست على أثرها الثورة الكوردية عام 1975م حيث اكتسحت شوفينية النظام السابق الاخضر واليابس في مدينة من أجمل مدن كوردستان والعراق والجزيرة معا بكثرة ينابيعها التي ردمتها جرافات حزب البعث ودمرت أكثر من 150 قرية كانت تنتشر في جبل سنجار وأطرافه، وتحتضن مئات البساتين والمناحل وآلافاً مؤلفة من قطعان الماشية، وخلال سنتين من أسوأ سنوات حياة المدينة تستمر فيها عمليات التدمير المنظم لأحياء المدينة وقراها وبساتينها، يتم تجميع آلاف الأسر من سكان تلك القرى والأحياء التي تم تدميرها بالكامل في أكثر من عشرة مجمعات على هيئة معسكرات اعتقال مبنية من الطين في جنوبي وشمالي المدينة مما يبعد السكان تماما عن مواطنهم ومناطق إنتاجهم.

وتصور النظام السابق بعد أكثر من ثلاثين عاما من التعريب والتشويه الديموغرافي إن الأوضاع أصبحت محسومة له تماما، ولكنها إرادة الشعوب وطبيعة الأشياء والحياة التي ترفض كل شيء مزيف ومشوه، لتعود المدينة خلال ساعات من سقوط وانهيار ذلك النظام إلى طبيعة تكوينها وأصالة سكانها وتستعيد هويتها القومية وإرادتها في الانتماء والقرار. ومنذ سقوط النظام والمدينة تتعرض ثانية إلى هجمة تترية لا تقل عن تلك الهجمات في تاريخها حيث تمت محاصرتها تماما منذ أواخر عام 2004م ومنعت عنها المؤن والوقود والكهرباء ومفردات البطاقة التموينية من خلال مجاميع منظمة من المسلحين الذين يرتبطون بذات تلك الثقافة التي عملت على تعريب وتغيير ديموغرافية المدينة طوال أكثر من ثلاثة عقود بما يشبه ما حدث في واقعة سنجار الرهيبة عام 1057م.
إن ما حدث خلال العشر سنوات الماضية بعد سقوط هيكل نظام البعث من مماطلة وتسويف في تحرير المدينة من ظلم واضطهاد عشرات السنين يؤكد إن مستقبل هذه المدينة وشقيقاتها في كركوك ومخمور والشيخان وخانقين ومندلي وغيرها، لا يمكن أن يكون إلا بعودتها إلى أحضان إقليم كوردستان التي ناضلت عشرات السنين من أجل ذلك وعملت الأنظمة المتعاقبة على تدمير هذه المدن وترحيل سكانها أو تعريبهم بأساليب عنصرية شوفينية.
في سنجار وشقيقاتها من مدن الشمس الكوردية شعب تواق لأخذ موقعه في بناء الوطن بعد سنوات عجاف من البطالة والإهمال والتدمير المنظم لكل البنى التحتية، فهذه سنجار واحدة من عشرات المدن والقرى تمتلك أرضا خصبة لا مثيل لها في أديم العراق وزراعة تجعلها بحق سلة الغذاء لكل العراق بما تنتجه من الحبوب والفواكه والخضراوات، مع ثروتها في طبيعتها وجبلها من معادن ومواد اقل ما توصف به إنها ذات جدوى اقتصادية عالية كما في واحد من اكبر معامل الاسمنت في العراق والمنطقة وهو معمل اسمنت سنجار بمحاذاة الجبل، والذي لم يستغل قيد أنملة واحدة لخير المدينة وسكانها، حيث مازالت نسبة العاملين من سكان سنجار في هذا المعمل لا تتجاوز العشرين بالمائة من العمال والفنيين وبعد خمس سنوات لم يتم استثمار أي من فوائد وإيرادات هذا المعمل للمدينة وسكانها.

إن سنجار واحدة من أشهر مناطق الزراعة الديمية التي ما زالت تعتمد على الأمطار وهي تحتوي خيرة الأراضي الزراعية التي دفعت حكومة نوري السعيد قبل أكثر من ستين عاما إلى اقتراح سد نينوى الحالي لإيصال المياه إلى أراضي سنجار وتلعفر، والذي تم تنفيذه من قبل النظام السابق ليخدم مجموعة من الأشخاص ليس إلا، ولا يتجاوز مجموعة قرى عربية في حدود منطقة ربيعة وهو الذي تم تصميمه لإرواء أراضي سنجار وتلعفر.
إن غزوة سنجار الهمجية على يد منظمة داعش الإرهابية أكدت إن تلك الثقافة التي سادت لحقب طويلة ما تزال سائدة وهي التي فعلت فعلتها في استباحة المحرمات وإبادة الكورد من الايزيديين والمسلمين سنة وشيعة ومسيحيين، وسبي نسائهم وأطفالهم في عودة خطيرة لبدائية العصور الغابرة، وهي بالتالي آخر حلقة من برنامج البعث العنصري والبداوة الدينية والسياسية المتخلفة، وهي اليوم تنهار أمام أولئك الذين اسقطوا كل الطغاة في صراعهم من اجل الحرية والكرامة والحضارة، حيث شهد العالم الحر المتمدن بان البيشمه ركة رمز للمقاومة والتصدي والصمود بوجه الهمجية والمدنية والحضارة، وان كوردستان جزيرة للسلوك الراقي والأخلاق الرفيعة، وان سنجار ستكون منطلق كوردستان لتحقيق أهدافها الإنسانية السامية.

المصادر:
(1) مجلة سومر، مجلد 31: ج1 ج2 سنة 1975 ص 21 القسم الأجنبي مقال د.بهنام أبو الصوف.
(2) بدج: رحلات إلى العراق.
(3) بكنغهام: رحلتي إلى العراق
(4) الخرشان: وهو قطع الجص المتصلب ويستخدم في التسقيف والبناء لوزنه الخفيف وصلابته.