ربما كان الخبير النفطي العراقي (جبار علي اللعيبي) أول من أشار, بعد احتلال العراق, إلى الواقع الغامض لحقولنا النفطية الحدودية, في كتابه الموسوم (الوقوف في العاصفة – تحديات في الزمن الصعب), من إصدارات دار السراج للطباعة والنشر البصرة عام 2009. . من يقرأ الكتاب من الجلد إلى الجلد يكتشف إن (اللعيبي جبار) يتحدث بروح وطنية صادقة, يدفعه الحماس دائما إلى استثمار نعمة النفط, والانتفاع من مواردها الغنية في تفعيل المشاريع النهضوية الشاملة, والارتقاء بالعراق إلى المستوى الحضاري اللائق, مفضلا البدء بالمكامن النفطية الحدودية المشتركة, الواقعة تحت أسوار الميزوبوتاميا, في الفكّة, والرطقة, وأبي غرب, ومجنون, لافتا الانتباه في أكثر من مناسبة إلى إن العراق هو الدولة الوحيدة في العالم, التي لم تسع حتى الآن إلى إبرام الاتفاقيات الثانوية, بالاتجاه الذي يضمن حقوقنا في ضوء الصيغ القانونية الواردة في الإطار العام, مبينا حاجتنا للعمل المشترك بصيغة الاستفادة الثنائية المعبر عنها باصطلاح (التوحيد Unitization). من يقف اليوم على مشارف حدودنا الشرقية والغربية والجنوبية يرى بأم عينه المعدات العملاقة التي جلبتها دول الجوار لخوض غمار التسابق السريع والمحموم, ويرى سعيها الحثيث لتطوير حقولها المتاخمة لحدودنا, بالقدر الذي يساعدها على استخراج أكبر كمية ممكنة من النفط لصالحها, في حين ساهمت حروبنا الكثيرة في تراجعنا, وتخلفنا عن تطوير حقولنا ومكامننا الحدودية, ما أدى إلى تكبدنا خسائر مادية فادحة, ترتبت عليها تنازلات سيادية مؤلمة. . كانت معظم حقولنا الحدودية تعمل بطاقات إنتاجية متواضعة بسبب افتقارها إلى المؤهلات التقنية المعاصرة, بينما كانت الدول المحاددة لنا تسير بخطوات حثيثة نحو تحقيق أعلى المعدلات في كميات النفط المستخرج من الحقول المشتركة. لكنها رفعت طاقاتها الإنتاجية إلى الحد الأقصى بعد عام 2003 , في الوقت الذي كانت فيه حقولنا الحدودية في أسوأ حالاتها بسبب تعرض آبارنا إلى العبث والتخريب, فقد تعرضت معظم آبار حقل الرطقة (الرطكَة) القريبة من الحدود الكويتية للتلف والدمار, وأُشعلت فيها النيران, وامتدت مخالب التخريب المتعمد لتشمل المنشآت السطحية لمحطة إنتاج الرطقة, ثم انتقلت شرارة التخريب لتطال حقول (أبو غرب) في الفكّة على الحدود العراقية الإيرانية, من جهة محافظة ميسان, حتى تحولت المنشآت السطحية إلى أشلاء مبعثرة, وأصبحت معظم الآبار المنتجة خارج نطاق الخدمة, واختفت الملامح الحدودية الهشة, ولم يعد لها وجود, واختفت المنشآت والمحطات التي كانت عامرة قبل 2003. . تطرق (اللعيبي جبار) في كتابه آنف الذكر (أسفل الصفحة 131) إلى بعض الآبار العراقية التي أصبحت في قبضة إيران, بقوله:((والانكى من ذلك كله إن بعض آبار الفكّة صارت في الجانب الآخر, وبات من الصعب, بل يستحيل الوصول إليها, ومما يزيد الطين بلّة أيضا هي طبيعة المنطقة الجبلية الوعرة, فضلا عن تداخل الحدود مع بعضها, بفعل غياب الدعامات الدولية, أضف إلى ذلك تواجد القطعات العسكرية الإيرانية)). .
خريدة في مهب الريح تؤكد المصادر العلمية على إن التغيرات الجيولوجية والتقلبات الجيمورفولوجية هي التي جعلت منطقة (خريدة أو الخردة) أغنى حقول النفط العراقية, في حين تفيد المصادر السياسية: أن الأطماع الإقليمية هي التي جعلتها في قبضة الكويت, وذلك في ضوء أحكام القرار الأممي الجائر (833), الذي زحفت بموجبة الكويت نحو الأراضي العراقية, وتوغلت في أعماق خور عبد الله بمباركة مجلس الأمن, حتى صارت قريبة جداً من سواحل الفاو, وتمددت حدودها الجديدة المضافة نحو حقول الرميلة بمؤازرة القوى الاستعلائية الغاشمة. تقع (خريدة) على امتداد الخط الصحراوي المرسوم من جبل سنام, والذي ينتهي عند الحافة الجنوبية لميناء أم قصر, مروراً بصفوان ومزارع (بني حجيم), و(البو صالح), التي استولت عليها الكويت وردمت سواقيها, وهكذا وقعت (خريدة) في قبضة الكويت, مثلما وقعت أرصفة الزوارق الصاروخية العراقية, وقاعدة الخليج العربي, ومنشآت قيادة القوة البحرية في قبضتها في العام 1993. كانت للعراق في (خريدة) وحدها عشرات الآبار, حفرتها شركة النفط الوطنية العراقية في عصرها الذهبي, وثبتتها في خرائط ومرتسمات موثقة منذ عقد السبعينات من القرن الماضي, ومنحتها أرقاماً ومسميات عراقية خالصة, بيد أن ذاريات (عاصفة الصحراء) زحفت عليها من حفر الباطن, وضمتها إلى الحقول النفطية الكويتية في قسمة ضيزى, لعب فيها (بطرس بطرس غالي) دور الخصم والحكم, وكان فيها مجلس الأمن هو العراب الذي أصدر شهادة ميلاد كويتية جديدة لحقول (خريدة), من دون أن يشير إلى اسمها العراقي القديم, وربما ضمتها إلى حقل (الرطقة), وهكذا انتقلت ملكيتها من العراق إلى الكويت في غفلة من الزمن. . ومن نافلة القول نذكر أن حقيبة الوثائق الرسمية العراقية القديمة حملت في جعبتها حكايات أخرى عن (خريدة), حكايات بدأت فصولها في منتصف شهر تموز (يوليو) من عام 1990 عندما انهالت التصريحات العراقية ضد الكويت, واتهمتها بسرقة النفط العراقي من حقول الرميلة, في حين تقول الروايات الكويتية أن تلك الاتهامات كانت إحدى الذرائع, التي لجأ إليها العراق لافتعال مبررات الغزو, بيد أن الوقائع الملموسة على مسرح العمليات النفطية في حقل (خريدة) وحقل (البقة) توحي للمشاهد العادي أن ما يجري الآن على الأرض يبعث على الريبة والشك, فالنشاطات الكويتية غير الاعتيادية, وغير المسبوقة, وجهودها المكثفة المعززة بأحدث التقنيات, والمجهزة بأفضل الأبراج العملاقة ذاتية الحركة, ونشاطاتها المتسارعة على حافة الخط الحدودي المستحدث بين الكويت والعراق تعطي انطباعات وتفسيرات غير مريحة, فالجهد الهندسي الكويتي الجبار في هذه المنطقة يتعدى حدود المعقول, ويتمرد على قواعد المنطق, ليسقط تحت طائلة التساؤلات والاستفسارات الكثيرة عن فحوى المساعي الكويتية المحمومة والمركزة في هذه المنطقة بالذات, فقد تراكمت الآبار الكويتية فوق بعضها البعض, حتى صارت منطقة (خريدة) تعج بغابة من الأبراج المتباينة الأحجام والأشكال والوظائف, ما دفع مجلس محافظة البصرة إلى إطلاق سلسلة من التصريحات بين الفينة والأخرى, محذراً من فقدان كميات هائلة من النفط العراقي, بسبب الجهود الكويتية الاستثنائية في التركيز على حفر الآبار عند خطوط التماس مع العراق, وأشارت التصريحات إلى احتمال لجوء الكويت إلى استخراج النفط الثقيل عن طريق استخدام أساليب الحفر المائل, بهدف استنزاف الاحتياطي النفطي, وشفط المخزون السطحي, من المناطق المحاذية والمتاخمة والمجاورة للحقول العراقية. فهل عادت حليمة الكويتية إلى عاداتها الاستفزازية القديمة ؟؟, أم أنها تعمدت شفط الثروات النفطية السطحية الواقعة على حافة خطوط التماس مع العراق ؟؟, وهل خططت لالتهام المأدبة من أطرافها الدسمة ؟؟, أم أنها استغلت الظروف المؤاتية لتستولي على الوليمة البترولية كلها ؟؟. هذه الأسئلة نعرضها على أنظار وزارة النفط بانتظار الجواب الشافي والرد الحاسم. .
حقولنا البحرية المتروكة لقد تفجرت الصراعات الحدودية بين الأقطار المتلهفة للاستحواذ على مكامن النفط والغاز في قاع الخليج, وتحول الخليج إلى ما يشبه الحوض الكبير, الذي تتشابك في قعره مصالح دول المنطقة والدول الكبرى, باستثناء العراق الذي اختار القيام بدور المقاتل الشرس, وانشغل بالمطالبة بحقوق العرب المنهوبة في عرض البحر, فشهر سيفه للدفاع عن (طنب الكبرى), وشقيقتها الصغرى, وعمهما (أبو موسى), في الوقت الذي راحت فيه الأقطار الخليجية نفسها تعد العدة للاستيلاء على ثرواته النفطية والغازية في البحر, وكانت هي السباقة في التسلل إلى خور عبد الله, فاستغلت غيابه, وراحت ترسم حدودها مع إيران بالطريقة, التي تحرمه من حقوقه الموروثة في مياهه الإقليمية, التي أقرتها الأعراف والاتفاقيات البحرية الدولية, فوجد العراق نفسه خارج الوليمة, وتقاسم الأخوة الأعداء حصته من غنائم البحر, فخرج من المولد بلا حمص. . واللافت للنظر إن حوض الخليج يضم الكثير من الحقول المسكوت عنها في المرحلة الراهنة, ونخشى أن تقع بعض تلك الحقول في حدود منطقة (خور الخفقة) العراقية الخالصة, أو في حدود منطقة (خور العمية), فتنهشها مخالب النزاع في ظل الغموض الذي يكتنف المياه الإقليمية العراقية. . ومن نافلة القول نذكر إن حقل (نوروز) هو أقرب الحقول البحرية لمدخل قناة خور الخفقة العراقية من جهة البحر, ولا يبعد عن مدخل هذه القناة الملاحية سوى (28) ميلا بحريا (الميل البحري يساوي 1852 متراً فقط), بينما تحيط بالمدخل ثلاثة حقول أخرى موزعة على قوس وهمي, يقدر نصف قطره بحدود (43) ميلا بحريا تقريبا, والحقول الثلاثة هي: حقل (أبو زار), وحقل (سروش), وحقل (درة). ما يعني إن مقتربات القناة الملاحية العراقية المؤدية إلى موائنا النفطية لابد أن تكون غنية بحقول النفط والغاز لوقوعها بمحاذاة أربعة من كبريات الحقول المشهورة شمال الخليج العربي. . ويؤكد وزير النفط الأسبق (الأستاذ عصام الجلبي), على إن العراق سبق له أن حدد بعض الرقع الاستكشافية عام 1990, وسعى لسبر أغوارها لكن محاولاته توقفت فجأة في آب 1990 لأسباب معروفة. . ختاما نقول: إن كنوز الميزوبوتاميا الواقعة تحت أسوارها الطرفية البعيدة في البر والبحر, وحقولنا النفطية والغازية المهددة بانتهاكات دول الجوار تستدعي التفعيل والتعجيل, ولا تحتمل التعطيل والتأجيل, لأنها من ممتلكات الشعب العراقي, التي لا ينبغي التفريط بها, فهي حق مشروع من حقوقنا المدعومة بقوة القانون الدولي وبموجب أحكام الاتفاقيات النافدة, ولابد من الإسراع والمباشرة باستغلال المكامن الحدودية المهجورة قبل أن تشفطها مضخات الأشقاء, وقبل أن تجففها شافطات الأصدقاء. . . |