مقرونون بلعنة الطغيان

في مدينة واسط العراقية عاش الحلاج صباه وشبابه الاول، فقرأ القرآن في مدرستها وعرف هناك المتصوف (سهل التسترى) فقرأ عليه التصوف وتتلمذ على يديه، وبعدها رحل الى البصرة وتلقى (خرقة التصوف) من يدي (عمرو المكي) وتزوج وأـنجب.

وكان الحلاج يعيش حياة الزهد والكفاف والاقبال الشديد على العبادة. وذات يوم قرر ان يشد رحاله الى مكة. وهناك عقد العزم على ان يقض عاماً كاملاً نذره لللصمت والصلاة، وخلال هذا العام تطور فكره وتبلورت مفاهيمه الخاصة به وحدثت قطيعة بينه وبين شيخه عمرو المكي، وبدأ يلف حوله المريدين والتلاميذ يسمعون منه ويدرسون على يديه.

ثم أثر ان يغادر مكة وان يعود الى مدينته كي يبدأ رحلته الفكرية الجديدة، وهناك كسر عن نفسه اسوار العزلة التي كان المتصوفة يؤثرون التخفي من ورائها. ونزل الى الناس في الطرقات والاسواق يعظهم، ويرشدهم، ويلقي امامهم بمواجده العاطفية، ومجاهداته الروحية، واجتهاداته الفكرية، حتى ضاق بالمتصوفة من امثاله، وضاقوا هم به، فنبذ (خرقة الصوفية) وألقى لهم بها، وقرر ان يقول ما يعتقده ويعبر عما يحس به بصدق، وكان ذلك يعني الصدام الأكيد ليس بينه وبين اصحاب الخرق الصوفية فقط، بل بينه وبين اصحاب الثياب الموشاة بالذهب ايضاً.

واستدعاه (علي بن عيسى) الوزير المتجبر وناقشه في مذهبه الفلسفي وبادله الحلاج رأياً برأي، ولكن الوزير الذي يمسك بيده سيف السلطان لم يعجبه الا يخضع الحلاج لرأيه ويتوقف عن كتابة الرسائل التي يعمق فيها مذهبه وفكره فما كان منه الا من أنذره قائلاً- تعلمك لطهورك وفرضك اجدى عليك من رسائل انت لا تدري ما تقول فيها، ما احوجك الى ادب... .

واستعدى عليه السلطان، فـأمر بضرب الحلاج ألف سوط، وبقطع يديه، ولكن ذلك لم يكفه، فاستصدر من قضاة المذاهب فتوى كانوا دائماً على استعداد لتقديمها للسلطات بكفره، فجرى صلبه في بغداد، ثم احترقت جثته وألقى برمادها من فوق مئذنة مرتفعة الى مياه دجلة.

مات الحلاج الفيلسوف، وعاش بعده علي بن عيسى الوزير، ولكن التاريخ ظل يحتفظ باسم الحلاج بين شهداء الفكر، بينما امحى اسم الوزير والامير والخليفة المقتدر، ولم يعد يذكرهم احد، الا عندما يذكر اسم الحلاج، وان كان ذكرهم يظل مقروناً دائماً بلعنة القهر والطغيان.