الثقافة ونصيبها من وقت الفراغ


هناك اسباب تحمل كل شاب ان يثقف نفسه واول هذه الاسباب واوضحها زيادة وقت الفراغ. فان استخدام الآلات والاجهزة التي اخترعها الانسان، قد ساعدته على تخفيض ساعات العمل للكسب. وسوف يخفضها اكثر في المستقبل. ولن يكون اليوم بعيدا حين نصل الى مجتمع راق يكفي احدنا كي يحصل على عيشه ان يشتغل ساعات قليلة في اليوم ثم يفرغ سائر نهاره وليله لراحته ومتعه الذهنية والجسمية والروحية. نحن نرى في الولايات المتحدة وفي كثير من العالم المتمدن ما يومئ الى هذه الحال.

ان استخدام الآلات في الانتاج قد جعل الامريكي الذي يملك ماكنة تعمل بقوة خمسين حصانا تعادل مجهود اكثر من 100 عبد. وكان يعمل سنة 1860 اثنى عشرة ساعة في اليوم كي يحصل على عيشه. اما الان فهو يعمل نحو ست ساعات، مع عطلة اسبوعية هي يومان كاملان. وهذه الساعات سوف تقل كلما زادت كفاءة الالات.

وهذه الحال على الرغم من المبادئ الامبراطورية والاستعمارية الشائعة في بعض دول العالم، الا انها سوف تعم الدنيا. فيجب ان نوطن انفسنا على ان وقت الفراغ سيزداد. وهذا الفراغ سيثقل علينا عبثا باهظا اذا لم نشغله باهتمامات ثقافية حيوية. ونحن حين نتوسم طوالع المستقبل نحس انه يجب على المدارس ان تعلم تلاميذها كيف يحصلون على كسبهم، ذلك لان تحصيل العيش لن يحتاج الى اكثر من ساعات قليلة في اليوم. وهو لم يعد فنا لان العامل يندمج بين الاف العمال، وبفضل الألة، يؤدي عملا خاليا من المجهود العضلي تقريبا.

فاذا فرضنا اننا نقضي 12 ساعة من النهار في الطعام والنوم بقيت 12 ساعة اخرى يجب ان نشغلها بما يرقي فكرنا. فاذا جهلنا الوسائل لهذه الترقية فاننا نحس خواءا ذهنيا لا يطاق. قد نتعرض الى ملأها بتسليات سخيفة او ربما نقع في غوايات ضارة.
لقد كان وقت الفراغ في العصور القديمة مقصورة على النبلاء والاثرياء. وكان ترفا غاليا لا يحصل عليه جمهور الفقراء في الامة، ولكن هذا الترف يستفيض بفضل الآلات بين جميع افراد الشعب حتى عمال الزراعة انفسهم سوف يجدون هذا الفراغ حين يتركون آلاتهم البدائية ويستغلون آلات القوة البخارية. والتثقيف الذاتي لهذا السبب ضرورة حتمية كي نملئ بها هذا الفراغ ونستغله.

وسبب آخر يجعل هذا التثقيف الذاتي حتميا، هو المجهود العضلي الذي كنا نبذله في الزراعة والصناعة والتجارة قد استحال الى مجهود ذهني. فالقوة العضلية في الانسان لم تعد لها قيمة كبيرة الا في المبارات الرياضية. والمصانع تؤسس الان في الامم المتمدنة التي نرجو ان نصل الى مستواها بحيث تكاد تعمل مستقلة اتوماتيكية، فتتسلم المواد الخاصة من ناحية وتخرجها من ناحية اخرى مصنعة مهيأة للأستعمال. وكل ما على العامل ان يستعمل المفتاح و ينظر ويشرف، والعامل في هذه الحالة موفر القوة العضلية وهو يترك عمله مرتاحا مستعدا لان يقوم باي مجهود آخر. فهو ليس مثل ذلك العامل الذي يترك عمله المضني منهوكا لا يستطيع النظر في جريدة او كتاب حتى لو وجد وقت الفراغ للقراءة.

لكننا ايضا صائرون الى هذه الحال في بلادنا العربية، اي ان العمل سوف لن يجهدنا. ولن يستهلكه سوى اقل الوقت، فنخرج منه مرتاحين مستعدين لوقت الفراغ الذي بما يرقينا ذهنيا ونفسيا وروحيا.
وسبب آخر يجعل التثقيف الذاتي حتميا انه لا يمكن للفرد ان يضطلع بالحكم الا اذا كان مستنيرا في شؤونه. ملما بالثقافة العامة داركا ابعاد الخير والشر. لان الشر كالوباء لا يتجزأ ولا يتحيز. فكما ان الوباء يتنقل من قطر الى قطر كذلك الشر والسياسة مثل الاستعمار ينتقل بالعدوى ويحدث الدمار والخراب في انحاء العالم.

فلا يمكن ان نتقي شر الحروب ونتخلص من تداعياتها ونتفادى سيطرة الاستعمار علينا الا اذا جعلنا كل فرد منا مثقفا يميز بين المعرفة المرشدة وبين الدعاية المضللة.
فظهور الاخطار الذرية والهيدروجينية يجعل التثقيف الذاتي ضرورة حتمية لان غير المثقف لن يفهم هذه الاخطار بل هو قد يساعد بجهله على الدعاية لها وانتشارها.
فاذا الممنا بكل هذه الاعتبارات امكننا في حق وصدق ان نقول ان التثقيف الذاتي هو واجب ديني على كل انسان لانه الضمان الاكيد للحكم الصالح على هذا الكوكب.