السياسة، في نظر إميل دوركايم، الفيلسوف وعالم الأجتماع فرنسي ليست واقعا قائما بذاته في أستقلال عن المجتمعات، بل هي من صميم التمثلات الجمعية وإذا كان كل نشاط سياسي يتحدد بموازين ومقاييس للقوى بين طرفي عمليتي التفاعل، فإن ذلك لا تتلاشى بسببه أدوار الدولة بوصفها الفاعل المحتكر لما يسميه ماكس فيبر عالم الأجتماع الألمانى وصاحب كتاب (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية( بحق أستعمال العنف المشروع .
ومن الممكن تعريف السياسة على أنها الوهم الذي يقوم عليه النظام الأجتماعي، فهى التمثلات التي تنظم المجتمع. ويمكننا القول بعبارة أخرى، السياسة ما هى ألا تجسيد للتمثلات الجمعية في مرحلة من مراحل تطور المجتمع. ويلزم عن هذا القول إنه كلما تغيرت التمثلات الجمعية أدى ذلك إلى حدوث تغير في مؤسسات الدولة. كما أنه ليست السياسة مجرد هواية ولعب من تحت الطاوله ، بل هي ممارسة وفعل يتطلبان أتخاذا للقرارات ولاسيما إن التفكير والإرادة يستوجبان الإنجاز.. كما أن الفعل قبل أن ينجز وجب تحديد هدفاً وكما أنه يقتضى دائما اختيار أفضل الوسائل التى تيسرالتحقيق.. لكن على ما يبدو أن العلاقة بين الغاية والقرار وإنجاز الفعل السياسي هي أكثر توتراً تعكس تشابك العلاقة بين السياسة والأخلاق. السياسة يمكن وصفها بالمهنة التى قد تكون لغايات مصلحية يرتزق السياسى الذي يمتهنها ويعتاش منها، وفي المقابل هناك صاحب المبادئ والأخلاق الذى يمتهن السياسة لخدمتها وللعيش من أجلها فقط .. وهنا بالذات تكون السياسة التزاماً أخلاقياً.. اتسم الوضع في عهد (ماكس فيبر) بـ(حرب القيم) ولقد تردد (فيبر) بين نوعين من الضوابط التي توجه الفعل السياسي، هما: الاقتناع، والمسؤولية.. وقبل حسم هذا التردد، سننظر في خلفيات وغايات هذين النوعين ولنتسأل كيف يكون الفعل السياسي مسئولاً وملتزماً؟، وما هي الضوابط التي تمنعه من السقوط في الممارسة السياسية اللا أخلاقية؟ فهناك بعض الضوابط ومنها : أولاً - الإقناع: قانوناً، يعني بالضرورة أن يعترف شخص ما عبر حجج وشواهد بشيء ما على أنه حق.. وعموماً، يعني اليقين الصارم والكافي لأجل تحقيق الفعل.. وبناءً على ذلك يمكن القول: إن عملية الإقناع بقضية ما أو بفكرة ما تتحدد بإخضاع العاطفة للعقل، أي للحقيقة بمعناها الصارم.. وقد صار هذا المفهوم في دلالته النهائية مرادفاً للصرامة في الثبات على مبدأ الالتزام والتمشي الحذر والمتروّي.. وعلى هذا يكون الاقتناع شكلاً من أشكال الانضباط أو الالتزام التي يطبقها الشخص على نفسه كي لا يسقط في ممارسات لا أخلاقية.. وبالتالي يعد فهم الأخلاق عند (إيمانويل كانط) سبيلاً لفهم ما قصده (فيبر) بأخلاق الاقتناع.. فيربط بين الاقتناع بالواجب، وهنا يعتبر (كانط) الأخلاق واجباً متى ما كان نافعاً مطابقاً للقانون الذي يقبل به الجميع، فما دلالة الواجب الأخلاقي؟ إن المسؤول السياسي - باعتباره مدبّر الحياة الاجتماعية - مدعو بالضرورة إلى ضمان أكبر قدر ممكن من الخير والسلم الاجتماعيين، لذلك له كامل المشروعية في تطبيق القانون لفرض الانضباط والنظام على الجميع دون استثناء.. وهذا لن يتحقق بدون استعمال القوة المشروعة للقضاء على العنف غير المشروع الذي قد يهدد السلم الاجتماعي، لذلك يقول: “يجب أن تواجه الشر بالقوة.. وإلا ستصبح مسؤولاً عن طغيانه”. وعلى ذلك يجب على السياسي قبل كشف أية حقيقة أن يتوجه بها - قصد المشاورة- إلى كل مؤسسات المكونة للدولة (البرلمان- الحكومة- ومكونات المجتمع المدني) ليؤكد الطابع العقلاني والتشاركي للعمل السياسي الذي يتطلب جودة الروية كشرط أساس قبل كشف أية حقيقة.. لأن السياسي لا يحسب فقط للمبادئ بل عليه أن يحسب وربما بشكل أكثر عمقاً للنتائج المترتبة على فعله، لأنه سيتحمل مسؤولية النجاح، وكذلك مسؤولية الفشل.. ومع ذلك فإن هذه المنطلقات لا تكفي كي يكتسب الفعل السياسي كامل صفته الأخلاقية، وهنا تأتي علاقة الالتزام السياسي بالمسؤولية. ثانياً - المسؤولية: تعني عموماً الوضعية التي يكون عليها من قد يُدعى إلى الحكم على حدث ما.. ونظراً لأن الحكم المسؤول قد يتغير بتغير الظرف والمكان، فسنرصد مع (لالاند) ثلاث دلالات لمعنى المسؤولية: 1 - المسؤولية المدنية: وتعني ضرورة تعويض الضرر الذي قد يحدث للغير وفق نظام قانوني معين وتحت شكل قانوني محدد.. يتعلق الأمر هنا بقانون مدني منظم للعلاقات الإنسانية، يتعين على الجميع طاعته، حتى نتفادى الضرر المادي أو المعنوي الذي قد يحصل لأي كان. 2 - المسؤولية الجزائية: تعني الوضعية التي يمكن أن تكون محل تتبع جزائي بسبب ارتكابه لجريمة أو لتجاوز معين، حيث تعني المسؤولية هنا ضرورة طاعة القوانين الجزائية المنظمة من قبل المؤسسات المختصة. 3 - المسؤولية الأخلاقية: تعني وضعية فاعل عاقل بالنظر إلى الأفعال التي يصبو إلى تحقيقها، وهذا يرتبط بعمق الوعي الأخلاقي للفاعل بما هو ضميره الباطني. وهنا على المسؤول السياسي أن يوفق بين الاقتناع والمسؤولية، وإلا فلن يكن سوى هاوٍ أو انتهازي.. ولذلك يجب أن تتسم شخصية السياسي الأصيل بـ: الشغف.. الشعور بالمسؤولية.. النظرة الثاقبة، كما يأتي: أ- الشغف: أي يكون شغوفاً بالقضية التي يعتزم الدفاع عنها، والتفرغ الكلي لأجلها، أي الإخلاص الشديد لقضية ما بشكل مناقض للانفعال العقيم. ب- الشعور بالمسؤولية: الملقاة على عاتقه، أي أن يكون فعله نابعاً من ضمير أخلاقي، يضع في اعتباره كل النتائج التي قد تترتب على فعله ويلتزم بتحملها حتى لو كانت مخيبة للآمال أو كارثية. ج- النظرة الثاقبة: وهي خاصية يجب أن يتمتع بها السياسي بشكل يعكس ترويته ورصانته في مواجهة أي قضية قد تعترضه وتعترض مجتمعه.. إنها الخاصية النفسية الحاسمة للمسؤول السياسي. وختاماً نؤكد إن حق احتكار القوة في السياسة غير معصوم من انحراف ضوابطه، في عالم الخداع السياسي.. وكرد فعل أمام فشل ما هو سياسي وما هو أخلاقي، فإن أكثر الحلول صدى اليوم هو نظرية (الفعل التواصلي) لـ(هاربرماس) التي تستند على ثلاث قواعد، هي: الحقيقة، الدقة، والصدق، كضوابط أخلاقية تضمن تحقيق السلم الاجتماعي كقيمة عليا مقاومة للعنف مهما كان مصدره ومهما كانت مبرراته.. إنه بالقدر الذي نهتم فيه بالحوار من خلال تهيئة الظروف العامة للتواصل بين كل مكونات المجتمع، بالقدر الذي نضمن فيه تعايشاً سلمياً بين كافة أطياف المجتمع مهما كانت انتماءاتهم ومهما كانت عقائدهم
|