أطباء العملية السياسية !

من بركات الحرب على العراق واحتلال بغداد هو وفود كم هائل ووفير من الخبرات العلمية والاختصاصات النادرة للبلد, والطاقات المغتربة .. وتحت شعار: "الكفاءات المهاجرة تعود إلى حضن الوطن", أنعم الله علينا بتلك الخبرات المهاجرة من حلاق اختصاص "خنافس" أو "حفر", إلى بائع سجائر, إلى "طهير" أو , إلى "عرضحلجي", .. "عربنجي" .. إلى مطيرجي .. إلى قابلة مأذونة, و"صانعة سحورة", بائعة سجائر, ناشطة في مجال السرقات, إلى "مضمد صحي", إلى بائع سجائر, ناشط في حقوق الإنسان الألي (!), _ ليس انتقاصا من المهنة وإنما لكلٍ مقامة ومهنته ومنصبه _, والقائمة تطول, ولا يسعنا الحديث عن سردها, فهي أقصوصة حية لأمةٍ ميتة!! 
  لكن هذه "الكفاءات المهاجرة", و"العقول النيرة" و"الطاقات العلمية" لم تأت من فراغ, وإنما هو  أمر يحكمه الفراغ الاجتماعي والتغييب الحي للكوادر, إضافة إلى تداعيات غياب الديمقراطية الذي أنتج الشحْن الطائفي والمحاصصة المشؤومة, وتعالي وتيرة العنف, بالوقت الذي بشرت وهلهلت به القيادات السياسية من إنْ الديمقراطية هي الحل, .. وإن البديل للاستبداد, والمضاد الحيوي للطائفية, .. غريب أمرنا .. كيف نصدق إدعاءات هي الأقرب للفنتازيا من الحقيقة .. وكيف تتوافق الديمقراطية والطائفية في سياق الاستراتيجية الامريكية, بلا غرو فالمعيار الامريكي ذاته تجد التناقضات الحادة في سلم اولويات مساره السياسي, فالولايات المتحدة التي جاءت على حد زعمها للجهاد من أجل صون حقوق الإنسان والحريات ونشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب, فهي تدافع عن الديمقراطية من جهة, وتبث ثقافة القتل والطائفية والإرهاب من جهةٍ أخرى, إذ لا أحد ينكر إن سبب البلاء الأول لما يحصل في العراق هو الاحتلال الأمريكي وما نعيشه اليوم هو ليس إلا مخلفات وتركة فواعل الاحتلال, فهي رفضت للمرة الألف أن تتحقق المصالحة الوطنية المتعثرة, التي ولدت ميته, لأنها لم تكن إلا مصالحة بين شركاء متفقين أصلاً, ولم تكن بين فرقاء وهذا جوهر عيوبها!
  والسبب في تلك "المناطحة الوطنية" هو غياب السياسي الحقيقي, وغياب الثقافة السياسية المُلمة بعمل البرلمان ودولة المؤسسات, مما أفقد الدولة هيبتها حتى امام مواطنيها, كانت البلاد بحاجة لسياسي محنك يُدير دفة المسار السياسي, ويُخرج الأمة من مأزق الاشكاليات المتفاقمة, وانتكاسة الطائفية والعنف والإرهاب لكن حرية الانفتاح على الحياة السياسية لكل التيارات الدينية والعلمانية مع غياب الإطار الدستوري والقانوني الضابط لتلك الحرية, جعل المواطنين _ بما فيهم النخب السياسية الجديدة _ لا يميزون بين الحرية والفوضى, فكلاهما يشيران لمعنى الفوضى الخلاقة.
   فلن يشهد التغيير (خريفاً أو ربيعاً) وستبقى الفوضى تلعب معنا دور الحرية (!), والكذب والمدنس سيأخذ دور الدين والمقدس, وسيُصبح أسفل القوم عاليها, والأكثرية أقلية, والأقلية أغلبية ساحقة تحت عناوين الفقراء والمظلومين والمحرومين والمهمشين والنازحين, وسيظل العراق مشروعاً طائفياً, ومنبراً للخطاب المضاد, ومصنعاً للعنف, ومستودعاً للتطرّف, ومنصة لإطلاق قذائف التُهم, ونابالم الشتيمة والسباب.  
   فالعراق لا يحتاج إلى مطهرجي, أو مضمد, أو زراق أبر, أو قابلة مأذونة, أو بائعة خُضار في قبة البرلمان, .. كما ولسنا بحاجة طبيبة بيطرة, أو طبيب عيون, أو طبيب جراحة عامة, أو طبيب نسائية وتوليد, بقدر ما نحتاج إلى طبيب جَرَاّح يُضمد جِرَاح الوَطن, وطبيب عملية سياسية ناجح يقلنا من انتكاسة الطائفية والحرب الاهلية والفساد والبيروقراطية إلى دولة المواطنة والمدنية والعدالة السياسية والاجتماعية.
المشكلة في العراق إنْ كل السياسيين تذرعوا لنا فأعدوا إنهم أطباء متخصصون وبارعون في مجامل جراحة العملية السياسية, .. فنجحوا  في خداعنا في أول تجربة لهم على المحك .. والمؤلم إنهم كانوا فعلاً أطباء إخصائيون .. لكن أطباء في إختصاص "تخدير العقول" بحقن الوعود والشعارات والخطابات التي تمضغ المايكروفونات قبلما تقضم اصواتهم الانتخابية!!