شهادة وفاة للعراق

مِن أكثر التعابير الكريهة المستوردة مع الدبابة الأميركية، حين تسمع ساسة العراق الجدد، يتحدثون عن السنّة والشيعة، أو عن العرب والكرد، بمنطق الأخوة، وبلغة الأشقاء، وهم يقصدون الأعداء في الحالين.
في تاريخ العراق ثنائيات رائعة: دجلة والفرات. الكرخ والرصافة. الجواهري والرصافي. فلماذا لا تكون ثنائية (السنّة) و (الشيعة) بمثل هذه الروعة؟!
أليس غريباً أن العراق الذي تعايشت على أرضه جميع أديان السماء في جميع العصور: المسجد، والكنيسة، والمعبد. فلسفات أرسطو، وهرطقات بوذا، ونقد زرادشت، وسلالات كونفوشيوس. فقه الشافعي، وشطحات الحلاج. يصعب أن تتعايش اليوم طائفتان من دين واحد في حيّ سكاني واحد؟!
نزعم أننا شعب واحد، بينما نحن ألف شعب، وألف جيش، وألف راية. لا دم الشهداء يوحدنا، ولا بحر من الدموع، ولا أنين الأرامل، ولا بكاء الأيتام، ولا ثلاثة ملايين نازح، ولا اقتلاع ثلث الخارطة، ولا سرقة ألف مليار دولار، ولا مهرجان الجنازات المفتوحة من سبايكر إلى بروانة، ولا مقامات محمد القبانجي، ولا حنجرة ناظم الغزالي، ولا شارع المتنبي، ولا شارع الموكب، ولا خيول حمورابي، ولا ملحمة جلجامش، ولا دستور، ولا قانون، ولا النشيد الوطني، ولا أطفال يموتون جوعاً وبرداً.
عندما يسألون الألماني: لماذا بلدكم جميل؟ فإنه يجيبهم مفتخراً: إننا خرجنا من الحرب، لنتعلم كيف ندفن الثأر والانتقام. لكننا في العراق، مع الأسف، فتحنا جميع ثارات التاريخ.
هل مرّ على العراق مثل هذا الزمن؟! 
لا مبالغة أننا نحتاج اليوم ألف علي الوردي، ليعيد لنا دراسة طبيعة المجتمع العراقي وظواهره الغريبة، ما بعد التاسع من نيسان 2003، فقد انقلب كل شيء رأساً على عقب. 
لكل شعب في هذا العالم هواية. الأفارقة يصطادون الحيتان. اللاتينيون يلعبون كرة القدم عند الشاطئ. الروس يرقصون الباليه. الألمان يعزفون موسيقى. فما هوايتنا نحن؟ كأن البلدان المعوقة، والفاشلة، والعاجزة مثل بلدنا، هي فقط من تتحدث عن التاريخ، وتتغنّى بالحضارة؟ 
تصاب الأوطان مثلما البشر بجميع الأمراض النفسية والعقلية والمستعصية. هذا وطن مجنون فقد عقله. انفرطت حبّات ترابه حبّة حبّة. حبّة ذهبت شرقاً وحبّة ذهبت غرباً. حبّة ذهبت شمالاً وحبّة ذهبت جنوباً. فماذا يبقى من الميت بعد رحيله غير مراسيم الدفن؟
لا تموت الأوطان إلا بحماقة حكامها، ولا تؤكل إلا باختلاف أبنائها. هل أقول إن العراق الذي عرفناه، وألفناه، مات؟ وإننا في انتظار إعلان الموت بشكل رسمي، واستخراج شهادة الوفاة، وتوزيع الأسهم والحصص على الورثة في القسّام الشرعي، وإذاعة بيان النعي؟!