سأتناول جانبا من مسبرة ثورة 14 تموز المجيدة، وحقيقة موقف الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم من الشيوعيين، بمناسبة الذكرى المشؤومة لانقلاب 8 شباط الاسود عام 1963، الذي يمر ذكراه هذه الايام، ربما لم يتطرق أحدا قبلي بالشكل الذي سأتناول فيه هذا الموضوع الحساس، اذ انني عشت أحداث الثورة بتفاصيلها، وأرتأيت أن اضع تحت يد القارئ الكريم بعض الحقائق دون الانجرار وراء العواطف بعد مرور اكثر من نصف قرن على حدوثها، كذلك تصحيح بعض الروايات التي كانت بعيدة عن الدقة والموضوعية، في تناولها لتلك الحقبة الزمنية بشكل موضوعي دونما انحياز، حيث كان البعض مندفعا بشكل عاطفي للدفاع عن عبد الكريم ومنجزاته ، لكنه تحاشى الكتابة عن سلبيات تلك المرحلة الا بشكل مجتزأ، وأخرين هاجموا عبد الكريم قاسم بطريقة تنم عن الحقد السياسي او الشخصي، عندما ضخموا اخطائه بل صوروا للناس ان عبد الكريم قاسم كان منحازا للشيوعيين بل بالغ البعض بالقول ان عبد الكريم كان شيوعيا، وتحاشوا الكتابة عن منجازات تلك المرحلة، ففي كلتا الحالتين لم يكن المؤرخين والكتاب حياديين في كتاباتهم التي من المفروض منهم عندما يكتبون عن مرحلة تاريخية ما ان يكونوا امناءا في نقله لا يدعون للعواطف والنزعات الشخصية ان يؤثر على ما يدونون. عندما أكتب هذه السطور عن موضوع العلاقة الحقيقية بين عبد الكريم قاسم والشيوعيين بعد ثورة 14 تموز المجيدة، سأحاول أن اكون أمينا وموضوعيا في ما ادون، خدمة للامانة التاريخية وللاجيال التي لم تعش تلك الفترة، حيث كنت في تلك الحقبة عضوا في الحزب الشيوعي العراقي من عام 1956 وقبلها بثلاثة، كنت صديقا للحزب، وقبل انقلاب شباط الاسود كنت كادرا وسطيا في الحزب، لكن الامانة التاريخية تحتم علي أن اكتب عن هذا الموضوع بحيادية مجردة وأنا من عام 1963 بعيد عن التنظيم لكنني قريب وصديق للحزب رغم ما لدي من ملاحظات حول بعض من سياساته في مراحل معينة. حقيقة الامر ان عبد الكريم قاسم لم يكن شيوعيا ولا حتى صديقا بالمعنى الحقيقي للشيوعيين، فعند تشكيل أول حكومة بعد نجاح الثورة، استبعد الحزب الشيوعي من المشاركة فيها، بالرغم من ان جبهة الاتحاد الوطني التي كانت الذراع السياسي للثورة، والتي تألفت من الاحزاب الاربعة (الشيوعي، البعث، الوطني الديمقراطي، الاستقلال) شاركت بوزراء لها في الحكومة، والكل كان يعلم بأن أكبر الاحزاب الاربعة نفوذا وجماهيرية في الشارع كان هو الحزب الشيوعي العراقي، وحتى ان ادبيات الجبهة كانت تطبع في المطابع السرية للحزب ويقوم اعضاء واصدقاء الحزب بتوزيع معظمها. كان هذا أول موقف سلبي من قائد الثورة عبد الكريم قاسم تجاه الشيوعيين، الا انه، عندما برز الصراع بين قطبي الثورة، عبد الكريم وعبد السلام، انحاز الشيوعيين الى جانب قاسم، لأن القوى القومية (البعث، الاستقلال، والقوميون المستقلون) انحازوا الى جانب عبد السلام، وكان موقف الشيوعيين نابعا من مخافة التهام العراق من قبل عبد الناصر ونظامه الدكتاتوري، وهذا كان مطمح القوى القومية، للقفز على ارادة الشعب العراقي باختياره نوع النظام الذي يرتأيه عبر انتخابات حرة وديمقراطية، فاستثمر الزعيم هذا الموقف لصالحه لعلمه بالنفوذ الكبير الذي يتمتع به الحزب الشيوعي في الشارع العراقي. الا ان الاحداث التي تسارعت بعد تمرد العقيد الشواف في الموصل يوم 8 آذار 1959، عندما فسرت اللجنة المحلية للحزب الشيوعي في الموصل بشكل خاطئ، بيان الزعيم الذي ناشد جماهير الموصل بسحق المتآمرين والقضاء على المؤامرة، حيث ارتكب بعض الشيوعين انتهاكات لحقوق الانسان دون الرجوع الى المركز، الذي خطَأ وادان في الاجتماع الموسع للجنة المركزية في تموز 1959 تلك الممارسات، التي ضخمت بشكل كبير من قبل اعداء الثورة، ثم تلت ذلك احداث كركوك التي رتبت واديرت من قبل عملاء شركة نفط الشمال الانكليزية، تلك الاحداث قصمت ظهر البعير كما يقال بين قاسم والشيوعيين. ان المرحوم عبد الكريم قاسم حمَل الشيوعيين مسؤولية تلك الاحداث حتى قبل اجراء التحقيق القانوني المستقل حولها بعد يوم واحد فقط من حدوثها، وانساق وراء الاكاذيب التي روجها اعداء الثورة والزعيم نفسه واعداء الشيوعيين وكان الغرض الواضح منها جعل هوة عمبقة بين الشيوعيين والزعيم، بالتالي ليعزلوا الزعيم للافنراد به، ونجحت مخططاتهم تلك التي تغافل عنها الزعيم، لقد شنت اجهزته الامنية التي كانت من بقايا النظام الملكي السعيدي المباد، حملة اعتقالات شعواء لم تشمل الشيوعيين وحدهم بل شملت حتى الشخصيات الديمقراطية واليسارية المستقلة، فزج بمئات الشيوعيين والديمقراطيين في السجون والمعتقلات دون اي مسوغ قانوني، (وكنت أنا من بين الذين طالهم الاعتقال لمرتين دونما سبب معقول سوى لنشاطي النقابي القانوني وبتحريض من البعثيين والرجعييين) وفصل المئات من العمال والموظفين من وظائفهم، كم شملت تلك الاجراءات عددا من العسكريين الشيوعيين والتقدميين في القوات المسلحة الذين كانوا السند القوي للثورة، حيث احال العديد منهم على التقاعد وجمد آخرين، وعندما اصدر قانون الاحزاب وطبق القانون بداية عام 1960 رفض الزعيم اجازة الحزب الشيوعي وأجاز حزبا كارتونيا برئاسة داود الصائغ وهو كان يعلم جيدا ان الصائغ لا يمتلك ولا عضوا شيوعيا حقيقيا واحدا، واستمر الزعيم في قمعه للشيوعيين ومطاردة اجهزته الرجعية للشيوعيين والديمقراطيين، في ذات الوقت اطلق العنان لنشاطات البعثيين وسائر القوى الرجعية، بشكل شبه علني وبدعم من الاجهزة الامنية وكان الزعيم على علم بذلك، وقد قدم مئات الشيوعيين والديمقراطييين والمدافعين عن ثورة تموزٍ، الى المحاكم العرفية العسكرية التي كان يتولى رئاستها الضابط الرجعي شاكر مدحت السعود ومدعيها العام الملازم البعثي راغب فخري العاني بتهم ملفقة، واصدرت تلك المحكمة مئات الاحكام الجائرة ومنها احكام اعدام قرقوشية بعيدا عن الاجراءات القانونية، بحق المئات من الذين لفقت تهم باطلة بحقهم حيث قدمت تلك الرؤوس هدية للبعثيين الفاشست عندما نفذوا بهم احكام الاعدام بعد انقلابهم الاسود، في نهاية عام 1960 اغلقت جريدة الحزب المركزية (اتحاد الشعب). بينما استمرت الصحف الصفراء بالصدور، امثال جرائد الفجر الجديد والحرية وغيرها والتي كانت تنفث سمومها بين القراء ، بالرغم من كل تلك الاجراءات لم يغير الحزب الشيوعي من سياسته المؤيدة للزعيم باعتباره قائدا وطنيا، وقد احدثت تلك السياسة تذمرا كبيرا بين القواعد والكوادر الوسطية للحزب، وكنت أنا من ضمن المنتقدين لسياسة الحزب عبر رسائل عديدة ارسلتها مع غيري من الرفاق الى قيادة الحزب لكن دون جدوى، ومن جملة الاجراءات المنافية للحريات العامة هي تلك الهجمة العدوانية الشرسة التي شنت ابتداءا من اواسط عام 1960 حتى انقلاب شباط الاسود على المنظمات الديمقراطية والنقابات العمالية فزج بقادتها المنتخبين ديمقراطيا في غياهب السجون وسلمت تلك المنظمات والنقابات الى البعثيين عن طريق انتخابات مزورة كانت تجري تحت حراب الاجهزة الامنية. لقد كان الحزب اليشوعي العراقي ينبه الزعيم بالمخاطر التي تحدق بالثورة ومكاسبها بسبب سياسة التفرد بالسلطة والتأخر الكبير في قيام المؤسسات الدستورية كالبرلمان وغيرها واستمرار الاحكام العرفية، ذلك عبر العديد من المذكرات التي كان يقدمها الحزب اليه مباشرة، لكنه كان يتجاهل كل تلك التحذيرات. ان الزعيم عبد الكريم قاسم، حتى في يومه الاخير يوم الانقلاب الاسود رفض تسليم السلاح للجماهير المحتشدة امام وزارة الدفاع التي كانت تطالبه بالتسليح لدحر المؤامرة، الا انه ابى ان يستجيب لمطاليب الجماهير لانه كان يعلم ان وراء تحشيد تلك الجماهير الغفيرة هو الحزب الشيوعين لا كما يتصور البعض امتناعه عن تسليح الجماهير كان خوفا من الاقتتال بين ابناء الشعب! بينما القتل اصبح من جانب واحد وهم الانقلابيون الفاشست الذين اغرقوا البلاد ببحر من الدماء، ولو سلحت الجماهير لما كان نصيب المؤامرة النجاح ولكان الضحايا اقل مما سقطوا على يد البعث الفاشي، الا ان الزعيم مع الاسف فضل تسليم البلاد الى تلك الزمرة الفاشية المجرمة من الاتكاء على مساندة الشيوعيين والديمقراييين له، هكذا ضاع العراق على يد الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم رحمه الله الذي سهلت سياساته الخاطئه المهمة القذرة للذين جاءوا بقطار امريكي!. فأين صداقة الزعيم للشيوعيين؟ ولكن وفاءا لذكراه وللمنجزات الاقتصادية التي قام بها ولوطنيته الخالصة وانحيازه للفقراء، وبالرغم من كل تلك الجراح نستذكره كوطني مخلص لبلده ذهب هو والعراق ضحية لسياساته الخاطئة.
|