لو يعود الملّا عبود

كانَ الملا عبود الكرخي من أشهر مؤرخي المجتمع البغدادي، ومن أشجعهم تحريضاً وثورة، وأكثرهم جرأة وجسارة. يتجلى ذلك في قصائده الناقدة، الساخرة، التي بقيت شاهدة على عصره. 
شاعر هجّاء يمزج المرارة بالهزل، ويضفي المرح على الكآبة، ويكسر المجرشة ويلعن حرّاسها اللصوص، من الذين لم يبقوا منها شيئاً إلا سرقوه.
البارحة خطرت لي إحدى هذه القصائد. كتبها الملا عبود في موت داود اللمبجي، في العقد الثالث من القرن العشرين، وذكرتني بمجتمع مكشوف لم يكن يخدع نفسه، أو يزيّف واقعه.
من يريد أن يعرف مزيداً من السيرة الذاتية عن شخصية داود اللمبجي، فليعد إلى قراءة ديوان الكرخي. إنه لم يكن أكثر من سمسار في مبغى. 
الغريب أن لدينا في العام الخامس عشر من القرن الواحد والعشرين عدداً هائلاً من "الرموز" السياسية، والنضالية، والإعلامية، والاجتماعية، يقومون بدور ذلك "اللمبجي". من المؤسف أن يختصر "اللمبجي" جميع الطرق الوعرة في بلدنا، فيحصد السلطة، والمال، والشهرة، لمجرد أنه سمسار.
أريد أن أقول: إن الفارق بين العصرين. إن عصر الكرخي كان يحتفظ في العلن بلمبجي واحد. بينما تناسل في زماننا "اللمبجية" وتكاثروا، ومنهم اليوم قادة أحزاب، وأصحاب مؤسسات إعلامية، ومصارف، واستثمارات، وصانعو رأي عام في المجتمع.
أكثر من هذا. صار "اللمبجي" هذه الأيام عنوان وظيفة عزيزة المنال، لا يستحيي منها أصحابها ولا يخجلون. ولا يتركون من رداء، أو قليل من حياء يسترهم، ولا حتى ورقة توت.
في رواية (الأخوة الأعداء) للكاتب اليوناني نيكوس كازنتزاكيس، يقول الراهب (ياناروس): إني ذاهب أفضح هذا العالم لله. لكن هؤلاء السماسرة من "اللمبجية" لم تعد تنفع معهم كل فضيحة. إنهم لن يطهروا حتى لو تطهروا بالمحيطات، والبحار، والخلجان، والأنهار، وتوضئوا بماء زمزم.
يدهشك أن يصبح السارق بطلاً شعبياً. أن يكون "اللمبجي" مثلاً أعلى في يده السلطان والصولجان. أما الموغلون في حب وطنهم، فإنه لا سبيل إلى سماع أصواتهم. 
الأنهار العظيمة تخرج عن صبرها إذا غضبت فتغرق العالم. فماذا ينتظر النهران الخالدان دجلة والفرات؟!
سلام عليك يا ملا عبود