ليالي قريش.. الليلة الأولى

و مصر هبة النيل، مكة تبقى هبة إيه؟
خلينا بس الأول نتأكد إننا بـ نتكلم عن نفس الحاجة، جملة "مصر هبة النيل" زي ما أنا فاهمها تعني إن النيل وهب/ أهدى/ أعطى للحياة حاجة اسمها مصر، مش معناه إنه وهب الحياة لمصر.

يعني إيه؟
يعني شوية المية دول، اللي شقوا الصحرا في أزمان قديمة قوي، هم اللي خلوا ناس تيجي من حتت مجاورة، تسكن جنبه، وتاكل وتشرب، وتكون دولة والدولة دي تبقى مصر. فالنيل عمل حاجة اسمها مصر.

نقول كمان، لو مصر هبة النيل، يبقى مكة هبة إيه؟
ندوّر ع المية، هنلاقي مكة هبة الآبار الجوفية اللي طلعت فيها، واللي أشهرها "زمزم".

لو حضرتك مسلم سني، يبقى غالبا هـ تصدق الرواية الدينية اللي بتقول إن أصل الحياة في مكة هي زمزم، في قصة السيدة هاجر مرات النبي، والقصة مذكورة في القرآن بشكل عام، وبعدين تفاصيلها موجودة في كتب السنة والأخبار، خصوصا حديث طويل لابن عباس، حكى فيه قصة هاجر كأنه كان موجود وقتها.

الرواية الدينية الأشهر بـ تقول إن البير اتردم، وأعاد عبد المطلب جد النبي حفرها قبل الإسلام بفترة بسيطة (في حدود قرن من الزمان).(تعبير الرواية الدينية فيه تعميم، لأنه مفيش رواية واحدة زي ما اتفقنا، تقدر تعتبره نوع من الإجرائية اللازمة).

لو حضرتك مش مسلم، أو مسلم بس ليك فهمك الخاص، ومهتم تعرف تاريخ المنطقة دي، ومش عايز تلزم نفسك بقصة هاجر وابنها إسماعيل، باعتبار إن مالهاش سند تاريخي بره النصوص الدينية، ما أعتقدش الموضوع هيختلف كتير، كل الحكاية إنك هتعتبر زمزم بير زيها زي آبار كتيرة، فيه منها اللي كان قبل حفر عبد المطلب (أو إعادة حفره) لزمزم، وفيه منها بعد كده.

من الآبار اللي اتحفرت قبل: 
بئر كُرّ آدم، بئر رم، بئر حم، بئر اليسيرة، بئر الرواء، بئر العجول، بئر عند الردم الأعلى، بئر بذر، بئر سجلة، بئر الطوى، بئر الجفر، بئر أم حجلان، بئر العلوق (هو اسمه كده)، بئر سقية (شفية)، بئر السنبلة، بئر أم حردان، بئر مرمرم، بئر العمر، بئر أم أحراد، بئر سقيا، بئر الثريا (الخفير)، بئر النقع، بئر ميمون بن الحضرمي.

ومن الآبار اللي اتحفرت بعد:
بئر الأسود بن البخترين، بئر ركايا قدامة بن مظعون، بئر حويطب بن عبد العزي، بئر مولاة الخيرازان، بئر بأجياد.

ولأن وجود الآبار دي كلها معترف بيه في الأدبيات الإسلامية، فالنتيجة النهائية إن الرواية الدينية، والرواية التاريخية، متفقين في إن المية الجوفية، اللي ملت مكة، هي اللي خلتها مأهولة بالسكان وخلى "أفئدة من الناس تهوي" إلى البلد دي، وخلاها تتميز عن غيرها من المناطق المحيطة. ومختلفين بس في قداسة أحد هذه الآبار من عدمه، ودي قصة عقائد ماليش فيها.

هل مكة كانت الوحيدة اللي فيها مية في الجزيرة العربية؟
لا، كان فيه كمان الطائف جنوب مكة، وكان فيه يثرب شمالها، والتلات "مدن" دول هم اللي كانوا نوارة إقليم الحجاز، وبره الحجاز كمان كان فيه أقاليم ليها وزنها، زي اليمامة مثلا، وأكيد اليمن، وغيرهم.

وجود المية في مكة كان نقطة ارتكاز في إنها تدخل حيز الحياة، زي ما دخلته الطائف ويثرب، ويخلي التجارة تعدي من هنا، تقدر ترجع في القصة دي لكتاب زي المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي، اللي كان مصدر مهم لغالبية اللي جم من بعده.

المهم، إن مكة ويثرب والطائف بقوا تلات مراكز مهمة، بس مكة شوية شوية قدرت تبقى هي رقم واحد، ازاي ده حصل؟

لازم نتكلم بقى عن الكعبة اللي اتبنت على بعد أمتار من زمزم، أو اللي زمزم اتحفرت على بعد أمتار منها.

وفي ليالي قريش هـ أختم كل مرة بالإشارة لـ كام كتاب مهمين في الكلام عن التاريخ الإسلامي مع الأخذ في الاعتبار التفاوت في الأهمية والثقل والمصداقية، والنهاردة كلامنا عن "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" لـ جواد علي، والفتنة لـ هشام جعيط، وحروب دولة الرسول لـ سيد القمني.