نقد المعرفة التاريخية في المنهج الدراسي التربوي العراقي 1-5

إن عملية تلقي المعرفة التاريخية ضمن المناهج التربوية والاجتماعية في المجتمعات العربية يخضع لخطابين مختلفين ، احدهما مرتبط بالبنية الاجتماعية الموروثة من دينية وطائفية وعرقية ، وثانيهما معطى بواسطة المناهج التربوية التي تسيطر عليها الدولة سواء كانت ملكية أو جمهورية ، وكلا الخطابين يحملان الكثير من عناصر التقديس والتبجيل للذاكرة العربية الإسلامية ، دونما أية مصوغات نقدية للأحداث والظواهر التاريخية ، فضلا عن عدم بناء منهجية للمقارنات المعرفية بين أجيال وحقب زمنية مختلفة فيما بينها ، فالبنية الاجتماعية الموروثة كما أسلفنا تحيط الأفراد ضمن تاريخها الخاص في اتجاه الموروث والمنقول الذي لا يخضع لمعايير المسائلة والنقد بل لمعايير التقديس وإعادة الإنتاج والتمثل والتقليد ، بحيث تكون التربية هنا عملية سجن معرفي وطقوسي بشكل دائم ، ولا تختلف كثيرا التربية التاريخية ، الموجهة من قبل الدولة ضمن حدود النسبي عن تربية البنى الاجتماعية الموروثة ، بالرغم من وجود الاختلافات فيما بينها من دولة ملكية وأخرى جمهورية ، حيث سيادة التوجيه والادلجة وانحراف التاريخ عن مقاصده وأهدافه وتنوعه في التفكير والتفسير فضلا عن وجود الاسطرة والخرافة في عملية التفكير بالتاريخ وغياب المنتج الحيوي ألا وهو الإنسان في تجاربه الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية ، وأثرها على صناعة المعرفة التاريخية وتثبيتها في نسيج المجتمع . 

نموذج العراق 

تأثرت كثيرا المعرفة التاريخية المقدمة في المناهج الدراسية بايدولوجيا الدولة في العراق ، وخصوصا بايدولوجيا القومية العربية لدى " حزب البعث العربي الاشتراكي " التي تتعامل مع المعرفة التاريخية بشكل انتقائي يخفي الكثير من الحقائق ويبررها ضمن منهجية أحادية تخدم التوجهات القومية التي لا تعتد بالأخطاء والسلبيات ومحاولة تجاوزها نحو الأفضل والأحسن بل هنالك الإهمال والنسيان المتعمد لجميع المظاهر السلبية التي تعاني منها الذاكرة العربية الإسلامية من مثل مظاهر الاستبداد والانغلاق والجمود العقائدي ، فضلا هيمنة الأساطير والخرافات التي لم تستطع التربية التاريخية ذات الإطار القومي معالجتها وتجاوزها ، والأمثلة لا تشمل الحقب التاريخية القديمة والإسلامية بل تصل إلى حدود الأزمنة الحديثة والمعاصرة بعد أن تم إضفاء وفرض النموذج القومي العربي عليها من حيث التفكير والتفسير والتأثير على الأجيال التربوية بشكل يديم عناصر التفوق الذاتي والمعرفي ، دونما أية حضور حقيقي على ارض الواقع المعاش من حيث بناء الذات العربية ومحاولة إيجاد العوامل المجهضة والأخطاء المانعة للتطور والتغيير خارج نطاق صورة " الأعداء " أو " الآخرين " الذين يتم وضعهم دائما في خانة العوائق الوحيدة لأية تحولات ترغب فيها المجتمعات العربية الإسلامية . 
إن " التاريخ العربي الإسلامي " لا يتم تدريسه بطريقة الاسترجاع التاريخي للأحداث والوقائع مجردة من التبعية الطائفية والتوجيه المركزي ، من تغليب الفكر النقدي وكشف مضامين الإبعاد والنفي للمختلف والمعارض ، بل من خلال صور " التسلسل الميتافيزيقي " للإحداث سواء تلك التي ارتبطت بالإسلام الأولي وما تلاه من صراع سياسي عقائدي أو تلك المرتبطة بالأزمنة الأموية والعباسية المكرسة لأسلوب الحكم الوراثي في اختيار الحاكم والخليفة ، أو تلك التي ارتبطت بأزمنة الهزيمة والتراجع عن الهيمنة والنفوذ ، فضلا عن سيادة الانقسام والضعف إلى دويلات وإمارات إسلامية متعددة ومختلفة فيما بينها ، وكل ذلك " التسلسل الميتافيزيقي " يخدم التوجهات القومية من خلال إبراز صفات الوحدة والقوة والمركزية والتوسع في النفوذ والانتشار .. الخ ، على حساب الحرية والاختلاف وإخفاء الوقائع المؤسسة لسياقات متنوعة من الإقصاء والنفي والتعذيب والاغتيال والقتل لجميع ما هو معارض للسلطة المركزية الرسمية ، بحيث يظهر الإسلام الأولي والعهد الراشدي دون أية مشاكل ومنازعات اجتماعية وسياسية واقتصادية . الجميع متمسك بالإسلام وبالقيادة الحكيمة للرسول محمد ، ولا توجد هنالك طموحات شخصية وقبلية للهيمنة والنفوذ ، هكذا يتم تصوير الأحداث والمعارك والغزوات التي قادها المسلمون من اجل بناء " الدولة العربية الموحدة " تحت قيادة الرسول محمد وليس الدولة الإسلامية الموحدة أي ربط الإسلام بالعروبة وجعل الأخيرة عاملا أساسيا لانتشار الإسلام تحت حكم وسيادة العرب أنفسهم ، وهذه ضمن تصورنا صياغة مثالية للأحداث ماثلة من خلال تأبيد عناصر التفوق الذاتي بشكل يلغي العوامل الحقيقية حول ظهور الإسلام وانتشاره (1) 
كذلك الحال مع ظهور الأزمنة الأموية والعباسية يتم تصوير التحول إليها مرتبط بالعدول عن الشورى والانتقال إلى الحكم الوراثي دون أية ممهدات وعوامل ساعدت على التحول إلى الاستبداد مع معاوية بن أبي سفيان الذي يعد " من كتاب الوحي واحد أفراد البيت الأموي وكان قبل تسلمه قيادة الدولة واليا على بلاد الشام منذ خلافة عمر بن الخطاب " (2) وبالتالي تصبح الدولة الأموية مكملة للسيطرة العربية ومؤسسة لانتشار الإسلام تحت راية العرب أنفسهم ، حيث التفاخر العظيم بمنجزات الأمويين " كالتعريب والفتوحات العربية وتطور الجيش والشرطة وغيرها " وهكذا ندخل فيما بعد إلى الأزمنة العباسية دون ذكر الأسباب والتحولات أيضا لتصبح النتيجة أكثر تقديسا للتفوق العربي ولكن هذه المرة سوف يدخل الآخر ، الأجنبي كالفرس والأتراك في الصورة كطامعين ، متآمرين وغزاة ، وليس كأدوات وعوامل أساسية للتطور والتخلف في الوقت ذاته ، خصوصا وأننا نعلم كثيرا إن قاعدة الوراثة في الحكم غير موجودة لدى العرب أنفسهم بل هي مستعارة بشكل خارجي من الفرس أو الروم ، كل ذلك لا يتم ذكره ، فضلا عدم ذكر الاستفادة من الخبرات العسكرية من " الآخر، الأجنبي " الفرس بالتحديد منذ أيام الرسول محمد حيث تأسيس فكرة حفر الخندق وانتهاء بما كان لهم من دور سياسي وثقافي وعسكري في الأزمنة الأموية والعباسية على حد سواء (3) 
وهكذا يكون " التراجع العربي" في التاريخ عائدا إلى التدخلات والإطماع الخارجية فحسب دونما ذكر لعوامل داخلية عربية اجتماعية وثقافية مضاف إليها ، حيث لا يوجد أية بوادر للنقد الذاتي في المنهج الدراسي لتعليم التاريخ ، هنالك التحريف والازدواجية في الحقائق والأحداث ، فالبويهيين يأتي ذكرهم مرة بأنهم " قبائل إيرانية متأخرة في الثقافة والحضارة " ومرة أخرى بأنهم ساعدوا على " ازدهار الحياة الثقافية والفكرية في بغداد " فضلا عن " ظهور عدد كبير من علماء الأمة الإسلامية " وكل ذلك لا يخرجهم من صفة العدوان والتآمر والسيطرة على " الأمة العربية " فضلا عن دورهم في تخريب " المظاهر الحضارية العربية " (4) ، ولا يأخذ الأتراك في المنهج الدراسي بشكل عام والسلاجقة بشكل خاص ذلك البعد التاريخي من العداء بالرغم من إن دورهم الحقيقي في التخريب أكثر بكثير ، إذ ظهروا إبان انحسار الفكر التنويري العربي الإسلامي ، ولم يشهد عهد السلاجقة الأتراك أية تطورات فكرية وثقافية ، بل العكس هو الصحيح هنالك الكثير من الممارسات الأرثوذكسية الناجمة عن فرض نموذجا مذهبيا واحدا مغلقا للثقافة والفكر الإسلامي ، والعمل تحت غطائه من اجل نهب وسلب خيرات البلاد ، الأمر الذي أدى إلى انحسار بقية النماذج والمعارف الإنسانية الأخرى ، (5) في حين تمثل زمن البويهيين كما يقول محمد أركون بوجود النزعة الإنسانية العربية المكونة " لحضارة منفتحة وخلاقة وفاتحة بأفضل معاني الكلمة " على جميع الثقافات المتنوعة من " هندية وإيرانية وسريانية ويهودية ومسيحية ونبطية ويونانية " حيث كانت اللغة العربية أداة الاستخدام المشتركة بين هذه الثقافات ، وكل ذلك لم يحصل إلا من خلال " نزع الشرعية عن الخلافة العباسية والى إقامة نظام من اللامركزية وتحقيق نوع من العلمانية في الحياة السياسية " (6) . 

المصادر : - 

1- بالرغم من سقوط الدكتاتورية البعثية في العراق ، ما زال تعليم التاريخ اليوم مرتبط ضمن حدود النسبي بالايدولوجيا القومية ، التي تنتقي الإحداث والوقائع وتربطها ضمن سياقها العربي القومي ، مع استبعاد مطلق للعوامل المادية والاقتصادية والاجتماعية في نشأة الإسلام وظهوره ، فضلا عن استبعاد أية آثار خارجية غير عربية مساهمة في انتشار الإسلام وتطوره وانقسامه إلى فرق وتيارات مختلفة فيما بينها . يراجع بشأن ربط الإسلام بالعروبة كتاب التاريخ العربي الإسلامي للصف الثاني متوسط ، الطبعة السادسة والعشرون 2013 ، الفصل الأول ص 35 ، بالرغم من تغير المصطلحات من " الدولة العربية الموحدة " إلى الدولة العربية الإسلامية . 
2- التاريخ العربي الإسلامي / الصف الثاني المتوسط / ص 65 . الغي من الطبعات الأخيرة لكتاب التاريخ للصف الثاني المتوسط كون معاوية احد كتاب الوحي ، في حين ظلت أكثر المناهج العربية خارج العراق تؤكد ذلك باستمرار . يراجع هنا تاريخ العرب والمسلمين ، دولة فلسطين / وزارة التربية والتعليم العالي الصف السادس الأساسي ، الطبعة الثانية 2001 ، ص 85 . 
3- التاريخ العربي الإسلامي / الثاني المتوسط ، ص 27. حيث تذكر أهمية سلمان الفارسي في إشارته إلى الرسول بحفر الخندق ، بينما يختفي ذلك الأمر في الطبعات السابقة وخصوصا في الأزمنة الدكتاتورية ، وهنا يراجع ملخص مادة التاريخ للصف الثاني المتوسط ، ملزمة ألطابعي ، ص 4 . 
4- ملخص مادة التاريخ للصف الثاني المتوسط ، ملزمة ألطابعي ، ص 28 ، ص 39 . 
5- لم يتبقى للخليفة العباسي تحت حكم السلاجقة أية سلطات تذكر ، حيث لا يستطيع التصرف حتى في أملاكه الخاصة ، فضلا عن كونه كان يعيش من أقطاعات مقررة سلفا لسد نفقات الخاصة ، وبذلك يعد عهد البويهيين أفضل بكثير من عهد السلاجقة حيث السلطات مقسمة بشكل لا مركزي بين الخليفة والحكام السياسيين من البويهيين دون إلغاء مطلق لسلطة الخليفة كما فعلها السلاجقة والتي سوف يكملها بشكل نهائي ، المغلول عند دخولهم واحتلالهم بغداد . حول وضع الخليفة العباسي انظر : أبو النصر ، محمد عبد العظيم / السلاجقة تاريخهم السياسي والعسكري / عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية / الطبعة الأولى 2001 ، ص 75 . 
6- أركون ، محمد / الفكر الإسلامي .. قراءة علمية / مركز الإنماء القومي ، المركز الثقافي العربي / الطبعة الثانية بيروت- الدار البيضاء ، 1996 ، ص 77- 78 .