يتعرض العديد من دول العالم بين الحين والحين الى انتقادات أميركية موجهة الى الأنظمة القضائية في تلك الدول متهمة إياها بالتسييس ومراعاة مصالح البعض على حساب مصالح الآخرين أو المصلحة العامة.. لكن هل القضاء الأميركي محايد وبعيد عن هيمنة السياسيين؟
في اﻟوقت الذي ﻛﺎن ﻳﻨتظر من اﻟﻘﻀﺎء الأميركي ان ﻳكون بعيدا عن السياسة وأن تنهمر العدالة كالمطر سواسية على الغني والفقير وعلى الديمقراطي والجمهوري وﻋﻠﻰ اﻻﺑيض واﻻﺳﻮد وﻋﻠﻰ جميع شرائح المجتمع الأميركي الأخرى من لاتين وهنود حمر وغيرهم، اﻻ ان عملية اﺧﺘﻴﺎر اﻟﻘﻀﺎة ﺗبين الى حد كبير عن ﻋﻤﻠﻴﺔ تسييس واضحة للقضاء وﻻﺳﻴﻤﺎ في اﻟﻌقود الاخيرة وﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﻔﺴﺮ تحكم اﻻﻋﺘﺒﺎرات اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ والأيدوﻟﻮﺟﻴﺔ في ﺳﻠﻮك اﻟﻘﻀﺎة وﻣﻮاﻗﻔﻬﻢ ﺣﻴﺎل ﻗﻀﺎﻳﺎ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ. ان خطورة القرارات اﻟـتي تحتلها اﳌؤﺳﺴــﺔ اﻟﻘﻀــﺎﺋﻴﺔ في الحياة اﻟﺴﻴﺎﺳــﻴﺔ ﻟﻠﻮﻻﻳــﺎت المتحدة الأميركية ﺟﻌﻠﺘﻬــﺎ إحدى ساحات الصراع المهمة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، خاصة في قضية اﻟﺘﻌﻴﻴﻨــﺎت اﻟﻘﻀــﺎﺋﻴﺔ. أن اﻠخلفية اﻷيديولوﺟﻴــــﺔ والحزبية ﻟﻠﻘﻀــــﺎة ﺗؤدي دورا مهما في القرارات التي يصدرونها بشأن ﻗﻀــــﺎﻳﺎ اﻟﺴﻴﺎﺳــﺔ اﻟﻌﺎﻣــﺔ التي يحرص ﻛــﻼ الحزبين ﻋﻠــﻰ ان ﺗﻜــﻮن ﻣﻨﺴــﺠﻤﺔ ﻣــﻊ ﻣﻮاﻗﻔﻬﻤــﺎ تجاهها، ﻛﺎﻻﺟﻬـــــﺎض و الهجرة وﺣﻘـــــﻮق اﻻﻗﻠﻴـــــﺎت واﻟﺴــــــﻼح، في محاولتهما لكسب الرأي العام و الفوز في الأنتخابات البرلمانية والرئاسية. اوﻻ: السلطة اﻟﻘﻀﺎﺋﻴﺔ ودورﻫﺎ ﻓﻲ اﻟﺴﻴﺎﺳﺎت اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻻميركية: تاريخيا دار جدل كبير حول كيفية اختبار القضاة في الولايات المتحدة. أثناء الحقبة الاستعمارية، اختار الملك القضاة، الا أن تاثيره الكبير على هؤلاء القضاة كانت إحدى النقاط الساخنة التي نوقشت في فترة إعلان الاستقلال. وبعد الثورة الأميركية استمرت الولايات في اختيار قضاتها عن طريق التعيين، الا أن هذه الطريقة وقفت حائلا أمام السيطرة على النظام القضائي. وتدريجيا نحت الولايات صوب الانتخاب الشعبي من أجل اختيار القضاة. على سبيل المثال، عمدت ولاية جورجيا في العام 1812 الى تعديل دستورها من أجل انتخاب القضاة في المحاكم الدنيا. في العام 1816 دخلت ولاية أنديانا الاتحاد مع دستور ينص على انتخاب القضاة في بعض محاكمها. وبعد ستة عشر عاماً أصبحت ميسيسيبي أول ولاية تنتخب جميع قضاتها. وقامت ولاية ميشجان بانتخاب قضاة المحاكم في 1836. في ذلك الوقت تعرض نظام التعيين لهجوم شرس بعدما امتعض الناس من سيطرة ملاك العقارات على النظام القضائي. وقرروا أنهاء ذلك الأمتياز للطبقة الغنية. في العقد التالي سيطرت الأنتخابات تقريبا على قضية تعيين القضاة، على سبيل المثال في المؤتمر الدستوري الذي عقد في نيويورك في العام 1846 لم ينل الموضوع الا النزر اليسير من أعمال المؤتمر. الا أن الوضع تغير سريعا ففي بداية العام 1853 اعتبر المشاركون في المؤتمر الدستوري في ماساشوستس الانتخابات الشعبية للقضاة في نيويورك فاشلا ورفضوا تبني العملية. وقال أحد المشاركين في المؤتمر أن النظام قد هوى في حفرة عميقة وهو يشير الى مقال نشر في الأيفنج بوست يتحدث عن وقوع القضاة في شرك السياسة. و دار جدل ساخن جديد في 1867 و تعالت الأصوات مطالبة بعودة نظام التعيين. و بدى واضحا في تلك الفترة أن القضاة كانوا يسيرون بشكل واضح من قبل السياسيين. وظهرت بعد ذلك نزعة بين القضاة، على سبيل المثال في مقاطعة كوك في ولاية الينويز، لتحرير أنفسهم من هيمنة الأحزاب و السياسيين من خلال خوض النتخابات بشكل مستقل. الا أن تلك المقاطعة عادت من جديد الى أحضان السياسيين في انتخابات 1855 و1893، بالرغم من المطالب الكثيرة خاصة في مطلع القرن العشرين لتحرير القضاء من براثن السياسة. في العام 1927 تبنت أكثر من 12 ولاية مبدأ الأنتخابات بعيدا عن السياسيين. الا ان الموضوع كان يثار في كل انتخابات، وفي 1908 أبدت نقابة المحاميين في داكوتا الجنوبية اعتراضها على النظام الجديد، وفي 1927 تراجعت ولايتا كنساس وبنسلفانيا عن قرارهما بابعاد القضاء عن السياسة.ﻳﺘﺄلف الجهاز اﻟﻘﻀﺎﺋﻲ في الولايات المتحدة الأميركية من المحكمة اﻟﻌﻠﻴﺎ ومحاكم الولايات. إن المحكمة العليا هي رأس الهرم القضائي الأميركي وتتشكل من رئيس وثمانية أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية بموافقة مجلس الشيوخ وتختص بصفة أساسية بالرقابة الدستورية على القوانين وتفسير مواد الدستور فضلا عن اعتبارها محكمة نقض للأحكام الصادرة من المحاكم العليا للولايات والتي سنعرض لها لاحقا ويمكن هنا القول ان هذه المحكمة هي المعادل الموضوعي لمزيج من محاكم النقض والدستورية العليا والادارية العليا معا وفقا لبعض الانظمة القضائية العربية المصرية. يسعى العرف الأمريكي المتبع في هذا المجال إلى تقاسم القضاة بين الحزبين الحاكمين فيحصل الحزب الديمقراطي على أربعة منهم مقابل أربعة للحزب الجمهوري, ويتم اختيار الرئيس من المحايدين. يقسم د. أحمد كمال مراحل الدور السياسي للمحكمة العليا إلى ثلاث مراحل: أ- الفترة من 1801-1853: تتميز هذه الفترة بمراقبة الاتحاد، ودستورية القوانين، وبنزعة قومية، فقد برهنت المحكمة عن وجودها كسلطة من سلطات الدولة العامة ، وكمنظم للحياة الدستورية، والفضل في ذلك يعود للقاضي الأعلى مارشال ، مدعوما من الجهاز القضائي بأكمله. ب- الفترة من نهاية القرن التاسع عشر – 1937: تتميز هذه الفترة بالدور المحافظ لنشاط المحكمة الخاص، فيما يتعلق بالتشريع العالمي، وقد تدخلة الدولة في عقود العمل داعية إلى حماية مبدأ حرية العقود، وفي هذه الفترة لم تناد بالرقابة الدستورية فقط عن القوانين الصادرة من الكونغرس والمجالس، بل تمتد إلى مراقبة التعديلات الدستورية، وبذلك بدأ القاضي، وكأنه فوق القوانين الدستورية، لأنه يوجد فوق الجميع القانون الطبيعي، هذه الأسباب أدت إلى وصف المحكمة بحكومة القضاة. ج- الفترة الثالثة: تتسم هذه الفترة بالتقدمية خاصة بعد تنصيب ايرلورين في 1953 قاضيا أعلى، ونقطة الانطلاق كانت حكم براون الصادر في 17 مايو 1954، والمتعلقة بالمساواة بين الأجناس، هذا الحكم قضى على الفكرة القائمة منذ بداية القرن العشرين، والتي تقول ”منفصلون لكننا متساوون” فمنذ هذا القرار تعهدت المحكمة بإقامة المساواة قدر الإمكان، في العلاقات الاجتماعية، وبناء عليه قضت المحكمة بدستورية قانون الحقوق المدنية الصادر في 1964، وقانون حقوق التصويت 1965، ملغية بذلك التمييز العنصري، كما أن المحكمة تعهدت بحماية الحريات العامة، وذلك بالحد من سلطة الأكثرية لصالح الأفراد والأقليات عملا بمبدأ ”لكل رجل صوت” هذا مبدأ فصل السلطات، كما ينادي به في النظام الرئاسي الأميركي، غير أن الملاحظة الواجب علينا أن نسوقها هي أن مبدأ الفصل غير واضح تماما، إننا نلاحظ أن المحكمة العليا تحولت في بعض الأحيان إلى مجلس سياسي ثالث..
المشرق
|