طبيب نفوس ولا طبيب عيون

مواصلة لحديث الأطباء والفكاهة، لا بد لي أن أذكر وأتذكر الدكتور فايق شاكر، طبيب العيون في العراق. هجر مهنته كالكثير من أطبائنا، ودخل ميدان السياسة، وفشل فيها كالكثير من ساستنا أيضا؛ فشخصيته الحقيقية كانت في الواقع شخصية «الكلاون»، أو المهرج. يروي الكثير من نكاته، التي هي أيضا تحمل ميلهم لبذاءة القول، مما لا يليق بهذه الصحيفة.
وكمهرج، اعتادت الحكومة تكليفه بأي مهمة لا يفهمونها ولا قدرة لهم عليها. كان من ذلك دعوة من النمسا لمؤتمر عالمي عن الأمراض العقلية. يظهر أنهم سمعوا بكثرة المجانين عندنا. فكلفته الحكومة بالمهمة. ولم يتردد قط في قبول الدعوة. حضر المؤتمر، ووجد نفسه جالسا بجانب بروفسورة من علماء النفس. سألته عما نشره من أوراق في الموضوع. قال لها: آسف، ليس لي شيء من ذلك؛ فهذا ليس موضوعي. أنا طبيب عيون.
قالت: شيء طريف! وماذا نشرت من أبحاث في هذا الميدان؟ قال: لم أنشر أي شيء لكثرة أعمالي، فأنا أمين العاصمة في بغداد. ازدادت عجبا. وماذا كنت تعمل قبل أن تتولى أمانة العاصمة؟ قال: كنت محافظا لمدينة كركوك، وأدير شؤون النفط لحقول بابا كركر. وأضاف فقال: وبين الوظيفتين كنت مسؤولا عن استتباب الأمن في كردستان. ولا تنسي أنني عضو في إدارة بنك الرافدين.
لاحظ فايق شاكر أن وجه البروفسورة بدأ يحتقن ويحمر. ثم أخرجت ورقة صغيرة، وكتبت فيها شيئا بعثت به لرئيس الجلسة. ما إن تسلمها حتى أشار لأحد العاملين بأن يسرع إلى السيدة الفاضلة وينقلها لمقعد آخر في الأمام. تبين أن ما كتبته للرئيس هو: «أنا خائفة. هذا الرجل الجالس بجانبي رجل مجنون. يحتمل أنه هارب من البيمارستان. أرجو نقلي فورا لمكان آخر».
انتهى المؤتمر، وعاد إلى بغداد ليروي لصحبه حكايته هذه عن دوره في ذلك المؤتمر الطبي العالمي! وكان صادقا في كل ما قاله بقدر مفهومنا للصدق.
تسلم خلال توليه أمانة العاصمة هذا التقرير عن حيوانات الأمانة: «قام مساء البارحة البغل الأسود رقم 73 بممازحة زميله البغل الأبيض رقم 21 في إسطبل النزيزة. أدى المزاح إلى عراك بين سائر حمير وبغال الحكومة، بما أسفر عن إصابة حمار بضربة شديدة في رأسه. حاول السائس جبار الأعور مصالحتهما، ولكنه تلقى رفسة قوية في بطنه طرحته أرضا. وقد أدخل المصابون للمستشفى البيطري حسب الفحص الطبي رقم 93. يرجى الاطلاع وإعلامنا باللازم».
أجاب الدكتور فايق بهذا الشرح: «الحمد لله على سلامة السائس جبار الأعور. يُغرّم البغل والحمار بقطع العلف عنهما لثلاثة أيام ليكونا عبرة لغيرهما من الحيوانات. وليفهم كل من تسول له نفسه الخربطة، بأن الحكومة ساهرة على الصغيرة والكبيرة، ولا يتصوروا أن الدنيا عفترة وكل من بكيفه. ويمنع المزاح بين الحيوانات منعا باتا. وتعلق لوحة بذلك في الإصطبل. أخيرا يرجى مفاتحة الوزارة لنقلي لأي مكان آخر بعيدا عن الحمير والبغال. أنا مع الأوادم هالله هالله. كيف مع الحواوين؟!».