عندما كانَ المرض يفتك بحياة الشاعر بدر شاكر السيّاب، ويأكل من أحشائه في مستشفى كويتي، وهو لا يحرز أمامه نصراً ولا يستطيع مقاومة. كتب وقلبه يتحرّق حنيناً في العودة إلى وطنه: عراق، عراق، ليس سوى عراق. لكنه يوم عاد إلى العراق محمولاً في صندوق خشبيّ بطول مترين، لم يمش في جنازته سوى سبعة أنفار، افترقوا قبل نزول النعش في القبر، والتفّت حوله ذراعان. أجزم لو أن السيّاب عاش في هذا الزمن، فإنه سيفكر ألف مرة، ويتراجع ألف مرة، قبل أن يقول قصيدته الشهيرة: إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون؟ أيخون إنسان بلاده؟ لم يدرك السيّاب يوم كتب (غريب على الخليج) أن العمالة للأجنبي، والخيانة، والجاسوسية العلنية ليست عجباً. وأنها ستصبح في الآتي من الزمن، ثقافة سائدة لدى حفنة من ساسة جاءت بهم مصادفات أقدار، يبيعون أوطانهم لمن يدفع، ويبحثون كل يوم عن سيد جديد يشتري. صارت العمالة في عصرنا وظيفة عزيزة المنال، لا يستحيي أصحابها أن تخاطبهم بالقول: يا أصحاب الأجندات. فهي تهذيب لغوي تعني أيها العملاء، وكثير منهم (مناضلون)، و(ثوار)، و(محررون). نعرف أنّ العرب كانت تتفاءل بأسمائها، فتسمّي العليل صحيحاً، والأعمى بصيراً، والأعور كريم العين، والأرض المهلكة مفازة، يوم لم تكن لديها هذه الثقافات من الأجندات، ولا هذا العدد الهائل من المناضلين! في جميع لغات العالم يسمّون الخائن خائناً، والعميل عميلاً، إلا في لغة السياسة العراقية المعاصرة، فإنهم يسمون العملاء بأصحاب الأجندات. ولو أجرينا استفتاء شعبياً على جائزة العميل الأول، فإننا سنصاب بكثير من الحيرة والدهشة، فلا ندري من هو أحق بهذه الجائزة؟! في رواية (الأخوة الأعداء) للكاتب اليوناني نيكوس كازنتزاكيس، يقول الراهب (ياناروس): إني ذاهب أفضح هذا العالم لله. لكن بائعي الولاءات في بلدنا لم تعد تنفع معهم كل فضيحة. الوطنية لا تُشترى من المولات وأسواق السوبر ماركت. إنهم مفضوحون يعبدون الدولار، ويخضعون لأوامره. لم يتركوا من رداء، أو قليل من حياء يسترهم، ولا حتى ورقة توت. يدهشك أن يصبح السارق بطلاً شعبياً. أن يكون الخائن مثلاً أعلى. أما الموغلون في حب وطنهم، فإنه لا سبيل إلى سماع أصواتهم. الأنهار العظيمة تخرج عن صبرها إذا غضبت فتغرق العالم. فماذا ينتظر النهران الخالدان دجلة والفرات؟!
|