منذ أن انفجر قلب بغداد آخر مرة وقلبي يتقطع، ومنذ أن تقطعت ضفائر بغداد والحلة وسيقان أطفالهما، وأنا غير قادر على التفكير في غير صور الأشلاء المقطعة التي دهمتنا، وغير قادر على الخروج من صدمة انفجار عشرين سيارة مفخخة في يوم واحد، وغير قادر على أن أمسح من ذهني صور الأعضاء المبتورة والجثث المحترقة. كنت أشعر بوجع مقلق وأنا أنتظر تصريحات المسؤولين لعل أحدا منهم يقول شيئا يبرد قلوبنا وقلوب ذوي الضحايا الذين لملموا أشلاء أبنائهم ومضوا ليعيشوا مع أحزانهم منتظرين انفجارا آخر قد يطيح برؤوسهم بعد أن أصبحت عودة العراقي الى بيته سالما مجرد احتمال.
كان الصمت مطبقا، والحكومة صامتة. مجلس النواب معطل ونوابه يتهم بعضهم بعضا. الوزراء يعلقون حضورهم لجلسات مجلس الوزراء لسبب آخر غير نهر الدم العراقي الذي يسيل من دون أن يثير غيرة أحد. ولم يتبق في المشهد سوى نواح الأمهات ورائحة الدم ونباح الفضائيات. والجميع يتحدث عن الانتخابات، وينسى دم الناخبين.
قوانين الفيزياء تؤكد أن لكل فعل رد فعل. لكن يبدو أن الفيزياء فقدت فعالياتها في العراق بعد أن انقلبت الموازين وصار الجلاد أعلى صوتا من الضحية. وصار الضحية يقدم كل يوم قطعة جديدة من كبده ليحافظ زعماؤه على التوازن القلق الذي يحفظ مصالحهم. وصار طلاب المدارس أهدافا استراتيجية للراغبين بإعادة النظر بطريقة حياتنا التي يراد اعادة تفصيلها على وفق المقاسات القطرية أو التركية.
أنا اليوم أقف بشدة ضد تعبير "القطط السمان" العتيق الذي يطلقه بعض الكتاب على المسؤولين الرسميين وعمالقة الاقتصاد الأسود، وأقف ضد استخدام العراقيين لوصف السياسي الماكر أو الموظف الكبير بأنه "عتوي". فحتى القطط تثأر لنفسها اذا أخذت منها أبناءها. وتخمشك بمخالبها إذا دست على ذيلها. حتى القطط والكلاب والسحالي والعناكب والثعابين وبنات آوى والدجاج والخيول أعطاها الله غريزة الدفاع عن نفسها. الخرفان المخصية فقط هي التي تنقاد لمصيرها بهدوء. الخرفان هي التي لا تدافع عن حقها في الحياة، هل يراد لنا أن نكون أضاحي مجانية يذبحها الجزارون بطريقة روتينية لا تدفعنا حتى للاستنكار بكلمات حادة أو لاتخاذ موقف يدفع عنا غائلة الموت المجاني.
بعضهم يخشى من ان رد الفعل قد يقود الى حرب. ماذا تسمون انفجار عشرين سيارة مفخخة أليست هذه حربا؟ أليست هذه مذبحة؟
للأسف لم يحدث أي رد فعل للسياسيين العراقيين تجاه هذه التفجيرات التي حصدت أرواح عمال المساطر وطلبة المدارس والمتسوقين وأبناء الله الذين لا ظهر لديهم ليستندوا عليه. بل ان بعض الساسة شمتوا بالعراقيين ودمائهم وتبادلوا الاتهامات. ولم نستمع إلا الى ادانات أصدرتها بعض الكتل استخدمت فيها كلمات رومانسية كأنهم يكتبون أغنية عاطفية لا بيان إدانة لموت أرواح العشرات من الفقراء الذي حكم عليهم قدرهم أن يولدوا في بلد غادرت فيه الرجولة كثيرين. حتى الرجل الكوري الجنوبي "بان كي مون" ثارت غيرته على العراقيين وأصدر بيانا استنكر فيه هذه التفجيرات بكلمات أقوى من كلمات بعض البيانات الباردة التي أصدرتها بعض الكتل. بينما اكتفى مقاولو السياسة بالشماتة ومدوا ألسنتهم لنا وقالوا اشربوا من البحر. وهناك من جعل الأمن ورقة في الصراع السياسي، فجعلوا التفجيرات جزءا من العملية السياسية. وجعلوا من موتنا رسائل غامضة يتبادلونها، ولم يكتف بعض السياسيين بإثارة قرفنا كل يوم عبر تصريحات بعضهم السمجة، فصار بعضهم يمنح غطاء للتفجيرات ويروج لها، وهناك من منح للمتورطين فيها غطاء سياسيا أو صمت عنهم في محاولة لكسب أوراق جديدة في لعبة قمار السلطة. بل ان بعض اخوتنا الكتاب تجاهلوا الأمر كأنهم اعتادوا رؤية الدم دون أن يجرؤ أحد على القول كفاكم لعبا بالدم العراقي.
توقعت بعد سلسلة التفجيرات أن تقوم الحكومة بإعلان الطوارئ، أو تشن حملة على قواعد الارهاب. أو تعلن أسماء من تقول انها تمتلك ملفات ضدهم، أو تلقي القبض على بعض السياسيين الذئاب الذين يتاجرون بالدم والأشلاء الممزقة وجثث الأطفال التي أحرقها الديناميت، أو يطاح ببعض الرؤوس والمناصب. توقعت أن يتحول شعار "اخوان سنة وشيعة هذا الوطن منبيعه" الذي يردده المتظاهرون أمام الكاميرات الى شعار "كلا كلا للارهاب" استنكارا لقتل اخوتهم في بغداد. توقعت جلسة طارئة يحضرها جميع أعضاء مجلس النواب يعلن فيها ممثلو الشعب انهم ضد ذبح العراقيين حتى نقتنع أن خلافاتهم التي أكلت حياتنا هي مجرد خلافات سياسية، وليست حربا تستخدمنا كوقود. توقعت أن ينفعل شيوخ الخراب الذين يريدون احتلال بغداد ويدينوا تقطيع أوصال الأطفال، توقعت أن أرى بعض الحياء في عيون مسؤول جنرال أو زعيم ميليشيا أو قائد أوحد. وتمنيت أن نشاهد في الأقل رجلا شجاعا يقدم استقالته.
وفوق كل ذلك يظهر لنا سياسيون يتحدثون بميوعة عن ضرورة تعويض الضحايا كأنما تعرضنا الى كارثة طبيعية لا تستوجب منا موقفا ضد قوى الطبيعة، متناسين أن المتسبب بهذه التفجيرات جماعات معروفة، لديها تنظيمات حزبية، يمتلكون مواقع اخبارية يتفاخرون فيها بذبحنا من الوريد الى الوريد، ومنصات يهددون من ورائها بإبادتنا، ووسائل إعلام تحتفل بفنائنا، لكن يبدو أن تفكير بعض السياسيين المستمر بالمال والمنصب والجاه جعل بعضم ينسون أن هناك أشياء أهم من المال والتعويضات التي لا تستلم إلا بعد سنوات تكون فيها عائلة الضحية قد فقدت فردا آخر. فتعويض ذوي الضحايا يتم بإلقاء القبض على الفاعلين وتقديمهم للمحاكمة واعدامهم. حتى لا تذهب الدماء هدرا. هل هذا المنطق صعب الفهم أم ان سياسيينا يريدون أن يعوّدونا على "التوافق" ومنطق الصفقة والحفاظ على التوازن السياسي حتى على دماء أبنائنا؟
والأغرب من كل ذلك هو تواري الجنرالات وكبار حراس الأمن الذي أصبحوا مثل ديوك الزينة الذين لا يظهرون إلا في احتفالات عيد الجيش بكامل قيافتهم، كأنهم غير مسؤولين عن هذه التفجيرات، وغير معنيين بها، بعد أن تعلم بعضهم لغة السياسة وصار يحرص على الظهور التلفزيوني وأجاد طريقة ايهام صانع القرار بالنصر الناجز المؤزر الذي لم يتحقق إلا في أذهان جنرالات الوهم الذين أوهم بعضهم صدام بالنصر المؤزر وهم الآن يحاولون ايهامنا بالنصر بنفس الطريقة.
ما هذا الوطن المخصي الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه وعن أبنائه؟
ما هذا الوطن الذي يهرب فيه المسؤولون من تحمل مسؤولياتهم ويستقيل بعضهم في أصعب اللحظات؟ ما هذا الوطن الذي يشمت فيه سياسيوه منا ومن نزيفنا؟ ما هذا الوطن الذي تقف حكومته وبرلمانه وسياسيوه وإعلامه على رجل واحدة من أجل صناديق الاقتراع متناسين توابيت الجثث، وينشغل فيه الجميع بالحصة المرتقبة من الأصابع التي ستتلون بالحبر البنفسجي، متناسين تحمل مسؤوليتهم في نهر الأحمر القاني الذي يسيل من الرقاب والسيقان المقطوعة.
أنا أعلن تعليق عضويتي في هذا الوطن حتى.. حتى.. حتى.. حتى الانفجار المقبل.