أكراد العراق ومؤاخذات التاريخ |
يمثل أكراد العراق نموذجاً لأزمة التقسيم التعسفي العالمي الذي اوجد بؤراً من التوتر في مناطق مختلفة من العالم ساهم في صب زيت الخلافات على نيران الارباك الجيوبولتيكي الذي تعيشه معظم مناطق الشرق الأوسط بخرائطه القديمة والجديدة . إن الشعب الكردي المسكون بحلم الدولة دفع ثمناً باهظا في سبيل تحقيق أحلامه غير انه اصطدم وما زال ينطح صخرة التحديات ويؤمن بأن هدفه ليس بالأمر اليسير مثلما يدرك بكامل مدركات الوعي إن " غياب الوطن هو لعنة على الدوام بحسب تعبير جيفري هارتمان والأصعب من الخيارين السابقين هو البقاء تحت رحمة هذا الوضع المتأرجح والمصير المعلق على حبال التجاذبات الدولية والإقليمية والمحلية ولكن وعلى الخط المقابل فأن تأثيرات المواقف الكردية على المشهد العراقي لم تقتصر على الوضع الداخلي بل تعدت ذلك إلى المحيط الإقليمي والدولي في أحيان أخرى مخاوف الأكراد من تنامي القدرات العسكرية للجيش العراقي تدفع بهم إلى ممارسة أقصى درجات الضغط والتأثير للحيلولة دون حصول صنوف الجيش على الأسلحة المتطورة وتنمية قدرات الجيش وخاصة التي تحمل طابعاً هجومياً قد يهدد الشعب الكردي مستقبلاً وهذا الأمر يستدعي استنفار كافة الطاقات والإمكانات والعلاقات لإجهاض صفقات التسليح ويزيد من بؤر التوتر خاصة وان الحكومات العراقية المتعاقبة قد أخذت جانب الحذر من المشروع الانفصالي للأكراد في محاولة لعدم تحمل المسؤولية التاريخية ووصمة تقسيم العراق الموحد عبر التاريخ ومع متابعة الشأن الكردي وما أسفرت عنه الأحداث بعد العام 2003 تبرز بصورة جلية حاجة المجتمع الكردي إلى الاستقرار فليس من المعقول إن تتحول حياة شعب كامل إلى محطات متواصلة من النضال السرمدي الذي يبتدئ بمنطقة معينة دون إن نرى نقطة تكون هي النهاية وربما سيبادر الشعب الكردي نفسه إلى القبول بأنصاف الحلول كرؤية واقعية لمستقبل العلاقة مع المحيط العربي من جانب والمحيط الدولي من جانب آخر في ضوء خلطة عراقية غرائبية تشعر فيها معظم المكونات أنها ينظر إليها كونها أقليات ليس بالمعنى الطبيعي والمباشر للأقليات وإنما الوجود المتأرجح التواق إلى المغادرة في المقابل عدم الحصول على بطاقات السفر التي تسمح له بإتمام رحلته والاضطرار إلى البقاء تحت طائلة الانتماء المبعثر والشعور بالشتات داخل الوطن الأمر الذي يترتب عليه اغتراباً مزدوجاً يدفع بالقلق إلى أعلى مستوياته وتشكل حالة من الفوضى المتداخلة وتشظٍ للذوات " أفراداً ومؤسسات " ما بين الركوع إلى الواقع الموشوم بندوب الماضي أو الانتظار للحلم الذي يبدو انه صعب المنال على اقل التقديرات ومن هنا يمكن أن نفهم مجدداً حالة الهلع التي تنتاب المسؤولين في كردستان العراق من تسليح الجيش العراقي فالاطمئنان في مثل هذا الوضع أشبه بالهروب إلى الأمام أو الاعتصام بقشور الأفيون التي تسمح بالإطاحة بعرش المخاوف لكن دون الوصول إلى نشوة الأمان . إن محنة الدولة العراقية بوراثتها مثل هذه التنوعات الشائكة ليست اقل من أزمة الشعب الكردي فتحول البلاد إلى ما يصفه توفلر بمجتمع أقليات وشبح جماهير متعايشة في مدارات القلق المستدام لن يسمح باعتماد شراكات إستراتيجية ولن يضمن احد حتى في حال حصولها استمراراً بعيد المدى لتلك التحالفات فأحد طرفي الشراكة يعترف بوضوح بأن بقاءه في هذا الإطار مرهون بحسابات قابلة للتغيير وإذا أتيحت الفرصة وتغيرت تلك الأوضاع فأنه لن يتوانى عن فك عرى التحالف الهش والالتحاق بتحقيق يوتوبيا تأسيس الدولة الكردية هذا بالإضافة إلى إن الطبيعة البراغماتية لتعاملات الكرد وفلسفتهم السياسية التي تميل إلى الحصول على أعلى مستويات الفائدة " وهذا الأمر مشروع " تدفع بمكون أساسي آخر وهم " العرب السنة " إلى عقد تحالفات مؤقتة هي الأخرى لتحقيق وجود وتمثيل " مجزي " لا يتناسب بطبيعة الحال مع عقود من الزمن التي كان هذا المكون يتربع فيها على سدة الحكم وقد اجتمعت مرحلياً مصالح الطرفين في مواجهة ما يرونه من اتساع رقعة التحكم للعرب الشيعة " وهو النتيجة الطبيعية لممارسة الإدارة وفقاً للرؤية الديمقراطية " لنشهد مداً وجزراً في التحالفات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وقد يكون صحيحاً إن قسماً كبيراً منها يدخل في حيز رفع سقوف المطالب ولا يعدو كونه تكتيكياً مرحلياً إلى إن الجانب الآخر من الموضوع اظهر خطراً كبيراً قد يصل في بعض الأحيان إلى تهديد السلم الأهلي والتهديد بنسف العملية السياسية واللجوء إلى حلبات الصراع خارج مضمار التداول السلمي للسلطة مع ضرورة الانتباه إلى الدور المرتقب للعراق بعد كل التغييرات التي حصلت في المنطقة في انه سيكون لاعباً مهماً وقد بدئت ملامح هذا الدور تتوضح بعد عقد القمة العربية في العراق واحتضان بغداد مفاوضات الدول الكبرى حول الملف النووي الإيراني ( 5+ 1 ) والمشاركة الفاعلة للقرار العراقي في محيطه الإقليمي والدولي وهذا الأمر يفتح أبواب الاحتمالات والرهانات والحسابات على كافة الاتجاهات وان انعكست آثاره المباشرة على قلق الساسة الكرد وخشيتهم من تنامي القدرات العراقية التي تحمل في طياتها شعوراً لا واعياً للتهديد تستبطنه الممارسات المتتابعة للدولة العراقية ودورها في قمع رغبات الشعب الكردي المتطلع لبناء دولته لذلك كان التحرك سريعاً نحو عرّاب العملية السياسية في العراق " وهي الولايات المتحدة الأمريكية إدراكا من القيادات الكردية أن هذا هو الوقت الأنسب للتفاوض حول إعلان الدولة الكردية لان المعطيات تذهب نحو التنامي المضطرد لقدرات الدولة العراقية الأمر الذي يعني المزيد من التقليص للامتيازات الفارهة التي تمتع بها الكرد طوال السنوات التي تلت سقوط تمثال ساحة الفردوس ، فالأكراد ومن خبراتهم المتراكمة أدركوا إن دائرة الإحاطة المربعة الأبعاد تبدو الفرصة مناسبة لكسر تابوهاتها والتغريد خارج سرب التبعية للدولة العراقية خاصة مع انشغال الجانب السوري بترميم بيته الداخلي المتداعي وحركة التغيير الكبيرة التي طرأت على ظاهر القرار التركي بدعمه القرار الذي تشكل لسحب الثقة عن حكومة رئيس الوزراء السيد نوري المالكي والذي يمثل الأكراد الجزء الأهم من مكوناته ودخول شركة اكسون موبيل كعامل مساعد لتعزيز الموقف الكردي وغيرها من العوامل قد تدفع بالمواطن الكردي قبل السياسي في ضرورة استثمار الظروف التاريخية وإعلان الدولة / الحلم التي قدم الشعب الكردي من اجل الوصول إليها التضحيات الجسام التي تستحق الوقوف عندها بمنتهى الاحترام بوصفها تمثل إرادة شعب كتب عليه مقاومة إجحاف المعادلات الدولية التي قسمت حدود البلدان دون مراعاة حقوق أهلها ولم يعد يحق للمتضرر من ذلك التقسيم العادل جداً سوى أن يضرب رأسه بالجدار . ومع ذلك فأن الدولة العراقية ورثت معادلات يصعب الحفاظ عليها يبرز ذلك الأمر من خلال معاناة الحكومات المتعاقبة وكيفية إدارتها للملفات الداخلية المرتبطة بحال من الأحوال بالتوازنات الإقليمية وفي مقدمتها القضية الكردية التي ترى الحكومات العراقية إن ما حصل عليه الأكراد في العراق من امتيازات لم تحصل عليه بقية مكونات الشعب العراقي وباعتراف الأمريكان أنفسهم يجب أن يكون سبباً في ازدياد عملية ارتباط الأكراد بالعراق خاصة وان الشعب الكردي المنتشر في بقية أرجاء المنطقة يتعرض للتهميش والإهمال المتعمد ولم يحصل على ابسط الحقوق بالإضافة إلى إن حكومات المركز لا تجد لها ضلعاً في عمليات التقسيم العالمية للمنطقة كما أنها " أي حكومات المركز " تواجه بحسب ما تراه نهجاً توسعياً للكرد يتمثل في المحاولات المستميتة للأكراد في ضم محافظة كركوك المشهورة بتنوعها وبقية المناطق التي باتت تعرف بالمتنازع عليها وهذه الخشية لدى حكومة السيد المالكي ليست بالجديدة فالذاكرة العراقية المعاصرة ما زالت تحتفظ بالموقف الصلب للدكتور الجعفري إزاء الموقف من كركوك والمادة " 140 " المنتهية الصلاحية بحسب الأطراف العربية ولن يجرؤ أي رئيس وزراء مقبل على المساومة أو إعطاء الأكراد هذه الامتيازات والانتحار السياسي لذلك فأن الموقف الآن هو كالمواقف السابقة يمنح بعض الترضية باليد اليمنى وسرعان ما تسحب تلك الترضيات باليد اليسرى حينما يتعلق الأمر بمزاج الشعب العراقي وما تسالم عليه من الإجماع الذي لم يكن الأكراد جزءً منه في يوم من الأيام لاعتقادهم الجازم بكردستانية كركوك وبقية المناطق المتنازع عليها . ومع وجود كل هذه التباينات فأنه يمكن الوصول إلى مجموعة من الخلاصات مفادها إن إعلان دولة كردية أمر في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً لإخلاله بالتوازنات الإقليمية وإتفاق الدول الإقليمية المحيطة بالأكراد على عدم السماح بمثل قيام مثل هذه الدولة لذلك فأن واقعية السياسة الكردية ستمارس مبدأ " خذ وطالب" لزيادة سقوف مطالبها والعودة مجدداً إلى واقع الحال المفروض أما الأمر الآخر فإن تأثيرات العولمة بدأت تنخر جسد الدولة القومية وهيمنتها على مقاليد الأمور سابقاً لمصلحة ادوار جديدة تتشكل من الاقتصاد والاتصالات والثورات المعلوماتية ثم الجانب السياسي وبهذا لم يعد إقامة دولة وإعلانها امراً مغرياً في مقابل الامتيازات التي توفرها المنظومة العالمية الجديدة بالإضافة إلى إن الكرة الآن في ملعب الحكومة الاتحادية وحسن إدارتها للملفات الكبيرة وإقناع الأطراف المختلفة في البقاء طوعاً والارتباط بالمركز من خلال تحقيق دولة الرفاه والعمران والمواطنة والعدل حينذاك ستكون الأطراف متمسكة بقلب الدولة الذي يشعر أطرافه بالاحترام والأهمية واخيراً فأن أكراد العراق بعد العام 2003 اثبتوا للعالم أنهم رجال سياسة ودولة من طراز نادر وإنهم يمتلكون القدرة على إدارة أصعب الأزمات والتعاطي بمنتهى المسؤولية والحكمة خاصة ما ظهر مؤخراً من احتواء الرئيس طالباني لأزمة سحب الثقة والمشاركة الفاعلة للرئيس ووزير الخارجية هوشيار زيباري في عقد مؤتمر القمة العربية واحتضان اجتماع 5+1 يقابل ذلك حنكة سياسية وتعاطي صبور من قبل السيد المالكي السياسي بامتياز والبارع في إدارة أدوات الصراع وما يحسب له من إدارة أصعب المفاوضات مع الجانب الأمريكي وإنهاء الاحتلال وبالتأكيد لن تجد الأزمات لها مكاناً بين الحكماء وان اختلفت طريقة النظرالى الحكمة ونسبيتها . |