ينشر مستخدمو فيسبوك من أهل البصرة صور ما تبقى من جمال مدينتهم، شوارع لمدينة المعقل ومبان قديمة على نهر العشار، القنصلية البريطانية مثلاً، مبنى دائرة الميناء ومحطة سكة القطار وفندق شط العرب، الذي بالقرب من المطار القديم في النجيبية، ومثل ذلك يفعل البعض في مدينة القرنة والفاو والزبير والبصرة القديمة. ينشرون صوراً بالأسود والابيض وأحيانا يلونونها، في استذكار يائس يبدو هو الأخير لمدينة تحتضر منذ سنوات، فيما تجهز فؤوس الحكومة والمقاولين من الشركات الأجنبية والمحلية وأبناء المال العام، المسروق بانتظام على كل ما هو اخضر وملون وجميل فيها. في غمرة ذلك، ولأول مرة، أشاهد بائعاً يتوسط سوق العشار الكبير، يفترش الأرض جالسا، يبيع صوراً قديمة للبصرة. شط العرب وملتقى دجلة بالفرات، عند كرمة علي، زيارات الملوك والرؤساء، بيوت النخب الأرستقراطية. قلت يا إلاهي، المدينة تندثر إذن، المدينة تختفي من خريطة وجودها الأول. ادخل السوق هذه واخرج من الشارع، الزقاق ذاك، أتجول في محلة البجاري، سوق الهنود، بيت أصفر، سوق سلومي، جامع المقام، الداكير، ابلام الغرام العشارية، بيت حنا الشيخ، قصر عبد الكاظم الشمخاني، عمارة النقيب، سيارات كراج الخورة، ساعة سورين، السراي الذي بالقشلة، باور هوز، كنيسة الكلدان القديمة في محلة نظران، التي بالقرب من جسر غربان، بيوت اليهود في محلة العزيزية والسعودية، الجسور المئة التي على نهر العشار في البصرة القديمة... ما الذي يحدث؟ أماتت المدينة كيما نتذكرها هكذا، ام أن متحفاً رثّاً كبيرا لصور عملاقة يشيده السكان في ذاكرتهم، يعلقونه على جدران منازلهم وينصرفون الى موتهم، أم انهم يندبون حظهم العاثر من خلاله كلما عنَّ لهم تذكر مدينتهم. يقول، معلقاً على صورة يحبّها: صديقي، الشاعر طالب عباس هاشم، المولود في قرية أبي خفيف بابي الخصيب، الصورة التي يبدو فيها واقفا على جسر قديم، وفي أفق الصورة يبدو أفق من بقيا نُخيلاتٍ هرمة، ثمة زورق منخور يموت على الجرف الطيني، ولا يبدو مستوى الماء مرتفعا، لعل الوقت جزر، ولم يئن بعد للمد ان يعلو. المشهد لا يخلو من لمسة حيية لجمال آفل، لكن الصورة برمتها تشي بزمن يتآكل، إذ لا طيور ترفُّ في الأفق، وما من صورة لشخص امرأة، طفل، فلاح، تحيي الهلاك العام الذي قضم أطراف الصورة. علق هاشم قائلاً: "هذا ما تبقّى من نهر قريتي." ومثل ذلك فعل ويفعل آخرون من أبناء المدينة، التي ألحقتها (عبقرية) حكومتنا المحلية بالتخطيط العمراني لمركز البصرة، وأخرجتها من كونها مجموعة قرى بأسماء وانهار وبساتين وجسور تاريخية يعود بناؤها الى الحقبة الأموية، من عتبة القرن الهجري الاول إلى ملحق قذر بمدينة بائسة. تفاجئنا دائرة إعلام المحافظة ومن خلال موقعهم الرسمي، على الشبكة بجملة اخبار، تتحدث عن زيارات يقوم بها المحافظ لكلية الزراعة مرة، وأخرى لقضاء الزبير والقرنة وابي الخصيب، يلتقي فيها بفلاحين. حيث يبدي فيها استعداد الحكومة المحلية لانتشال الواقع الزراعي وتقديم العون للمزارعين والفلاحين، باحاديث عن أهمية الزراعة في المدينة، بعد تراجع اسعار النفط خاصة. كان بود السكان تصديق ذلك، بودهم أن يجدوا مصداقية لبعض ما يتفوه به أعضاء الحكومة من وعود وأمنيات، لكن واقع الحال غير ذلك، ويخيل لي أن الاستعانة بالمثل الشعبي (يراويك حنطة ويبايعك شعير) هي الأقرب لفهم مقاصد شريعة حكامنا، إذ من غير اللائق أن لا يقرأ هؤلاء بعض ما صرخنا من أجله وكتبنا وأشرنا. سادتي، حكامنا، تتحدثون عن اهمية الزراعة وترون بأم أعينكم المجازر التي ارتكبت وترتكب يوميا بحق غابة النخل وشبكة الانهار والمساحات الخضر والقرى التي كانت واحات أمن وجمال ورقي. تتحدثون عن الزراعة وانتم تعلمون علم اليقين بأن أقضية القرنة والمدينة والفاو وابي الخصيب وغيرها من الأماكن التي كانت يوما ملاذا وقوتا ورحمة وخيرا وزرقا طيبا للإنسان والطير والوحش.. أصبحت خارج المقاصد التي أرادها الله والإنسان والطبيعة لها. تتحدثون عن الزراعة وأنتم، ومن خلالكم قبل غيركم، تشترون عشرات الدونمات من البساتين وتحولونها الى عشوائيات ومكبات للنفايات ومجاري لتصريف المياه الثقيلة والخفيفة. أنتم قبل غيركم بصمتكم، وعدم تشريعكم للقوانين وفساد قضائكم وجهلكم وانشغالكم بما هو دون مسئولياتكم مَنْ خرّب المدينة، واجهز على الحلم الذي أراده أهلها لها. ما أتعسنا!! كيف، وبأيِّ شِرْعةٍ للهدم تحكمون؟
|