تركت للقسم الأول من هذه المقالة أن يتحرك ضمن قناعات واضحة حول قضايا لا أظن ان غياب الرأي الشخصي بماهية الدين عنها سيأكل من وضوحها وأهميتها وجدواها, فهي غير منحازة أولا لدين ضد آخر لكي يقال عنها أنها مع الإسلام ضد المسيحية أو اليهودية, بل ان فيها الكثير من التأكيد على وجوب حرية النقد البناء الذي ينطلق من حرفية ودقة. ولقد دفعني إلى ذلك إطلاعي المتواصل على طبيعة النقد والهجوم الموجه ضد الإسلام ورأيت في بعضه, بالطريقة التي يكتب فيها, تجنيا على بنية ونوايا النقد, وهذا ما همني بالدرجة الأولى. في إعتقادي إن من شأن ذلك أن يخلق ردود أفعال لا تنتج غير تحفيز المقابل للدفاع عن الإسلام بصورة مغلقة ومتطرفة, ثم رأيت أنه سيعطي للتكفيرين الإرهابين وعموم المتبلدين والتجهيلين من رجال الدين فرصة أن يؤكدوا على أنهم الأحق بتمثيل الإسلام من غيرهم, وليس غريبا بعد ذلك ان ترى بعضا من المسلمين يندفعون لتأييد هؤلاء التكفيرين وإعتبارهم الخيار الأفضل للدفاع عن دينهم في وجه هجمات معادية يعتقدون أن غرضها الأساس هو هدم الإسلام لصالح أديان أخرى, وليس هدفها توضيح الحقائق, وهو أمر سيحرمنا بكل تأكيد من فرص الإقترابات المتوازنة التي تبتعد بالقارئ من سوء الظن بان الهجوم على إسلامه يتغذى بدوافع ذاتية تتأسس هي بدورها على تعصب او إنحياز لدين آخر. وأرى أن طريقة طرح الفكرة قد تتفوق من حيث الأهمية على الفكرة ذاتها, لأن الشيطان غالبا ما يعشعش في التفاصيل. كما وأرى إن من واجب المفكرين الذين يسعون لتحقيق إنتصارات على الأرض أن يدرسوا بشيء من الإهتمام الظروف الذاتية والموضوعية التي تكفل لأفكارهم ان تتحول إلى حقائق. خذ مثلا الصراع المذهبي والطائفي الذي تكفلت بإنضاجه قوى الإسلام السياسي وساهمت بتغذيته المصالح الدولية والإقليمية ثم احسب ماذا فعل هذا التفعيل لمسالة إنتصار العلمانية أو حتى نضج الحاجة الوطنية لها. الشعب العراقي مثلا بات كثيرون منه مشغولين بنصرة المذهب بدلا من نصرة الوطن, وهكذا فقد تأخر كثيرا النضج الوطني العام لحاجة نهضوية إسمها العلمانية. وداعش نفسها ليست بعيدة عن الإدعاء بتمثليها لمشروع إنقاذ(سني إسلامي) في وجه هجمة (مجوسية ويهودية ومسيحية) ضد الإسلام بشكل عام وضد (الصفوية الشيعية) بشكل خاص, والإسلام السياسي الشيعوي لا شك ايضا أحد المستفيدين السياسيين من وجود داعش لأنه يصرف أنظار الشيعة عن خطر الدجل السياسي لأحزابهم الطائفية . ولن أخفي حقيقة اني ما إن قرأت كتاب (همنغتون) المعنون (صراع الحضارات) حتى شعرت فورا بأنه كتاب قابل للإستخدامات التآمرية, فبعد ان تراجع خطر الشيوعية إثر إنهيار الإتحاد السوفيتي فقد باتت هناك حاجة ماسة لملأ الفراغ الناشئ من غياب العدو المركزي التاريخي بعدو آخر كان لا بد من شحنه وتفعيله بطرق مختلفة, وأنظر إلى حمى الإسلاموفوبيا سترى صحة ما اقوله. على صعيد الداخل الأوروبي وحتى الأمريكي تأجلت إلى أمد غير منظور قضايا النضال الإجتماعي, أو فلنقل تراجعت, ولو على صعيد نفسي, الحاجة إلى تغيير يمس جوهر البناء الإقتصادي لصالح خطر صد الهجمة البربرية الإسلامية ضد الحضارة الغربية , والآن فقد بات هناك حديث علني عن حرب عالمية ثالثة ضد ما يسمى بخطر الإرهاب الإسلامي, ومن الطبيعي ان تجري تحت عناوين صد هذا الخطر المركزي الحفاظ على البنية الإمبريالية للعلاقات الدولية التي تكفل لقوى الهيمنة أن تديم شكل ومستويات وصيغ هيمنتها على العالم. أليس من الغريب حقا ان العلمانيين في أوطاننا قد باتوا يواجهون الخطرين معا في ذات اللحظة, خطر الإسلامويين في الداخل وخطر الدوائر العلمانية الغربية اليمينية التي باتت تفعل صراع الحضارات على اسس الثقافات الدينية وتجعله بديلا للصراع الإجتماعي. نحتاج إذن إلى دراسة الخاص والتعامل معه وصولا إلى العام المشترك, وبهذا الإتجاه فإننا معا قد نفلح بوضع ضوابط للمرور في طرق متقاطعة ومتشابكة. وأول هذه الضوابط أن نعرف أن بناء الدولة العلمانية لا يشترط أن يكون المجتمع علمانيا إلا على اساس سياسي, ومن ضمن ما يجب ان نتعلمه من العام الإنساني أن المجتمع الذي تصارع حينها في الغرب كان إكتفى من العلمانية بجانبها السياسي العام, اي بإقامة الدولة التي تفصل ما بين السياسة والدين, وترك للجانب الفكري أن يخوض صراعه على اساس قوانين حرية التعبير المحروسة من قبل الدولة ذاتها. لكن حرية التعبير لم تخض صراعها في الغرب على اساس قيمتها النظرية التبشيرية وإنما أيضا بدعم من تحولات إقتصادية وعلمية كانت قد أهلتها بشكل أفضل لكي تخوض صراع الأفكار مع قوى المؤسسة الدينية التي أفقدتها تلك الدولة العلمانية قدرات القمع بالمقدس. ثم أن علينا أن نعلم أيضا أنه لم يكن مقدرا للعلمانية الغربية أن تنتصر لو أنها جابهت تحديات دينية خارجية ذات قيمة, من الإسلام أو اليهودية مثلا, وإلا لكان بإمكان المؤسسة الدينية أن تُفَعِل ورقة التحدي لخارجي على حساب قوة نضج الظرف الداخلي. إن العلمانيين الذين لا يقدرون حق ذلك, والذين لا يميزون بين معنى الدولة العلمانية ومعنى المجتمع العلماني ولا يقفون أمام الشروط الخاصة لإنتصار العلمانية في البلدان المختلفة ويسقطون نتائج تجربة على أخرى بشكل ميكانيكي هم علمانيون ولكن ضد العلمانية
|