المثقفون ومنهج العنف الدموي في الحياة العراقية؟

 

                                                        

من بين الظواهر التي يمكن رصدها في التأريخ العراقي القديم والحديث معا كثرة الحوادث والوقائع الدالة على انزال العقوبات المختلفة من بينها الاضطهاد والتنكيل والقتل والتصفيات الجسدية المريرة القاسية بحق عدد كبير من المفكرين والشعراء واصحاب المذاهب الكبرى فقد شمل القتل والتنكيل في العراق على نطاق واسع كل من الشاعر طرفة بن العبد الذي قتله والي البحرين بأمر من الملك عمرو بن هند , حاكم العراق قبل الاسلام في مدينة الحيرة , والشاعر أعشى همدان الذي قتله الحجاج بن يوسف في الكوفة , والشاعر الكميت بن زيد الأسدي الذي قتل في بلاط والى العراق يوسف بن عمر الثقفي في الكوفة في عهد الامويين , والشاعر سديف بن ميمون الذي قتل بأمر من الخليفة أبي جعفر المنصور , والشاعر بشار بن برد الذي قتله الخليفة المهدي بتهمة الزندقة ثم بكى عليه بعد أن تأكد من براءته بعد موته , والشاعر أبو نخيلة الذي قتله عيسى بن موسى ولي عهد الخليفة المنصور , والشاعر ابن الرومي الذي قتله الوزير العباسي القاسم بن عبيد الله بالسم , والشاعر صالح بن عبدالقدوس الذي قتله الخليفة الرشيد والشاعر دعبل الخزاعي الذي هجا الخلفاء العباسيين فقتلوه بالسم والشاعر علي بن جبلة الذي قتله الخليفة المأمون بقطع لسانه من الحنجرة  والشاعر المتصوف الحسين بن المنصور الحلاج الذي قتل وأحرقت جثته في أيام الخليفة المقتدر , والشاعر أبو الينبغي الذي مات في السجن أيام الخليفة الواثق , والشاعر المتنبي الذي قتل ونهبت أمواله وخيله وحاجياته , والشاعر الفضل بن سهل الذي اغتاله الخليفة المأمون وكان وزيرا من وزرائه  والشاعر محمد بن عبدالملك الزيات الذي قتله المتوكل داخل تنور من حديد .

 أما الكتاب والادباء , فقد نكل بعدد غير قليل منهم , ومن أولئك : الكاتب المعروف ابن المقفع , مؤلف كتاب كليلة ودمنة , الذي قتل بأمر الخليفة المنصور , حيث قطع جسده وألقي في تنور مشتعل , والعالم اللغوي النحوي يعقوب بن السكيت الذي قتله الخليفة المتوكل بقطع لسانه من الحنجرة , وكذلك مقتل المفكرة والداعية الاسلامية الشاعرة الجميلة ( قرة العين ) بعد أن سجنت وطردت من العراق الى ايران .

واضافة الى ذلك , فقد قتل عدد من قادة الثورات والانتفاضات ذات الاتجاه الفكري مثل قادة ثورة الزنج وثورة القرامطة وغيرهم 

اما اصحاب وقادة المذاهب الاسلامية الكبرى المعروفون فقط تعرضو الى صنوف الاذى و القهر والاذلال والاهانة و التعذيب ولم يسلم احد منهم من ساطور العنف  في العراق وهؤلاء هم ..

الامام ابو حنيفة النعمان (700-767م)

وهو مؤسس المذهب الحنفي الذي يعتمد اعتمادا كبيرا على الاستدلال القياسي من القران توسيعا لنطاق الشريعة 

2- الامام مالك بن انس (713-795م)

وهو امام دار الهجرة بالمدينة و مؤسس المذهب المالكي الذي يعتمد في احكامه الشرعية اعتمادا كبيرا على الحديث النبوي الشريف 

3- محمد بن ادريس الشافعي (767-820م)

وهو مؤسس المذهب الشافعي ويتميز هذا المذهب بتقييد اللجوء الى الراي الشخصي ولكنه لم يسرف في الاعتماد على الحديث النبوي الشريف (وهو الذي استنبط علم اصول الدين )

4- الامام احمد بن حنبل (780-855م)

وهو مؤسس المذهب الحنبلي –ولد ببغداد عام 164هـــ وكان امام المحدثين ومن اصحاب الامام الشافعي (وقد رفض  اصطناع الراي الشخصي واعتمد كل الاعتماد على القران والحديث النبوي الشريف انه مذهب مغال في المحافظة على السنة النبوية الشريفة ). 

ومن المؤلم ان بعض اولئك القادة و الائمة لم يسلم من الاذى والاعتداء في هذه البلاد حتى بعد مماته فقد روي ان جثمان الامام علي بن ابي طالب قد نقل من قبره الى قبر اخر حتى لايتعرف الخوارج على مكانه خوفا ان ينبشوه ويعبثوا به . اما قبر الحسين بن علي فقد هدمه الخليفة المتوكل بعد ما يقرب من مئة وسبعين عاما من مقتله وازاله من الوجود وهدم البيوت والمساكن القريبة منه وحرث موضع القبر والارض المحيطة به ثم زرعها وسقاها حتى يطمس كليا معالم  القبر ومكانه  

اما قبر الامام ابو حنيفة النعمان بن بشير فقد هدم وخرب وازيل من الوجود في بغداد بعد وفاته بحوالي ثمانمائة وخمسين عاما (850سنة ) وكان ذلك في عام 1623وقد طمست معالم القبر حتى وجد المكفلون ببنائه وتشييده مرة اخرى بعد فترة من الزمن صعوبة كبيرة في التعرف على مكانه ، كما تعرض قبر الشيخ عبدالقادر الكيلاني للهدم والتخريب والاعتداء كذلك هدم قبر طلحة وقبر الزبير بن العوام في البصرة في القرن الثامن عشر للميلاد اي بعد اكثر من الف عام على وفاتهم ......

ولعل من حق المرء ان يتسائل : اي عنف كثيف مرعب يستحكم فوق ارض العراق لايمكن ان تسلم من اذاه وتخريبه واحقاده حتى قبور الاموات ؟الذين دفنوا تحت التراب منذ مئات السنين .

غير انه من جانب اخر فان عددا  من تلك القبور التي تعرضت للعبث والاهانة قد اعيد تكريمها على ارض العراق ذاتها وعلى نحو بالغ وهائل من التقدير والاجلال والتعظيم والاحترام في فترات متفاوتة من الزمن وبطبيعة الحال فان المقصود بذلك التكريم هو اصحاب تلك القبور  فقد اعيد بناء جميع تلك الاضرحة والقبور التي هدمت واقيم فوقها مراقد ومزارات فخمة تعتبر من ايات الفن الاسلامي في الهندسة المعمارية وصورالابداع والزخرفة الهندسية في العالم .

ان عظمة المقامات الضخمة التي تقف اليوم شاخصة بفخامتها المذهلة في العراق مثل مقام الامام علي بن ابي طالب في النجف . ومقام الحسين بن علي في كربلاء ومقام ابي حنيفة النعمان والشيخ عبدالقادر الكيلاني وموسى الكاظم في بغداد ومقام الزبير بن العوام في البصرة وغيرها كثير ما هي الا شواهد ناطقة تؤكد قوة ومجد هذه البلاد العريقة وهي  في ذات الوقت تمثل ، في وجه من الوجوه ، صورة من صور التناقض و الازدواجية الحادة في معالم الشخصية العراقية ببعدها الاجتماعي والنفسي والسلوكي تلك الشخصية المتسرعة والمسرفة دائما في سيرها المتناقض نحو البغض والمحبة نحو الانتقام والتسامح نحو القسوة والرقة نحو البخل والكرم نحو البناء  والهدم.