مطالعة في كتاب: (كتب ووثائق وتراث الأقليات العراقية)

 

بداية، قد يستفز عنوان الكتاب البعض، فكلمة "الأقليات" ماعادت مستساغة لدى كثيرين، ليس لدى من تطلق عليهم هذه التسمية وحسب، بل لدى كثير من المنصفين الذين يرون في حصر مجموعة من البشر في نطاق العددية بعيدا عن الأصالة والتأثير الثقافي والحضاري والإنساني، إجحافا كبيرا وتناقضا صارخا مع الإنصاف والعدالة بكل مقاييسها، لاسيما في بلد كالعراق هو بلد التنوع بامتياز.

"العراق هو بلد الاثنيات، يعيش فيه إلى جانب قوميتين كبيرتين هما العرب والكورد اللتين تعتنقان الإسلام، عدد من المجموعات الاثنية والطوائف الدينية يعود تاريخ بعضها إلى آلاف السنين كالكلدان الآشوريين السريان والمندائيين واليزيديين، وبعضها الآخر إلى مئات السنين كالكاكائيين والتركمان والشبك والأرمن والبهائيين. هذه الاثنيات والطوائف أسهمت في بناء العراق وتطوره الاجتماعي منذ تأسيسه ولعبت دورا كبيرا في إثراء ثقافته. لكن بالمقابل لم تحصل على حقوقها الدينية والقومية والثقافية أسوة ببقية أبناء الشعب العراقي وخاصة أبناء الأكثرية، بل على العكس واجهت صعوبات كبيرة ومعاناة شاقة وتعرضت لحملات من القتل والإبادة والغزو على أيدي محتلين أو متطرفين لذرائع دينية أو قومية في فترات مختلفة من تاريخ العراق مما أدى الى تلف الكثير من مصادرها الثقافية والتراثية. حتى أن البعض منها كاليزيديين على سبيل المثال لم يعد في متناول أيديهم معظم كتبهم المقدسة أو مخطوطاتهم بينما أضاع آخرون كالسريان مثلا، آلاف المخطوطات والايقونات والتحف الدينية الثمينة".

قراءة مدخل الكتاب الذي استللنا منه هذه الفقرة وإن كانت تحيلك إلى تاريخ فيه الكثير من الفترات المظلمة التي عانت خلالها الاقليات من البطش والعنف والاضطهاد ومصادرة الوجود، لكنها تعيد الى ذهن القارئ عبارة "التاريخ يعيد نفسه" لاسيما المستوى الأقسى الذي بلغه البطش والعنف والاضطهاد مع بشاعة التصرفات الهمجية التي يقدم عليها لفيف من القتلة المجرمين الذين يتوشحون بالدين ويتخذونه ستارا يخفون وراءه جرائمهم النكراء بحق الإنسانية التي ظنت أنها تجاوزت عصور البربربة والهمجية بقرون، ولكن ما يسمى بالدولة الإسلامية (داعش) أعاد إلى الأذهان تاريخا اسود من الغزوات وجز الاعناق وسبي النساء واستلاب الغنائم، فضلا عن الاعصار الظلامي الذي ألحق أبلغ الأضرار بالتراث الإنساني والحضاري. فالتلف الذي وقع في أزمنة غابرة كما يتحدث عنه الكتاب، ليس بأكبر من تفجير مقام النبي يونس وسواه من صروح هي تراثية أكثر منها دينية من كنائس ومساجد وسواها، وفقدان المخطوطات قد يبلغ ذروته بعدما جلا المسيحيون السريان عن قراهم ومدنهم، ليبقى تراثهم ومخطوطاتهم وأيقوناتهم الأثرية عرضة لتلف ما بعده تلف وضياع ما بعده ضياع. وكذا الحال مع الايزيديين الذين تعرضوا وما زالوا إلى حملات إبادة جماعية لم تبق ولم تذر، فكم تراه مدى التلف والضياع الذي يطال ما تبقى من تراثهم في هذه الأيام العصيبة؟ 

"دخلت المسيحية العراق منذ أواسط القرن الأول الميلادي بحسب  آباء كنيسة المشرق وكتبة مسيحيون عديدون يؤكدون ذلك، منهم: مشيحا زخا، مؤلف كتاب كرونولوجيا أربل وبرحذبشبا عربايا، مؤلف تاريخ كرخ سلوخ، ويعتقد أن توما الرسول مر بالعراق أثناء ذهابه إلى الهند للتبشير بالمسيحية، تلاه مار أدي (ت 49م) أحد تلامذته (وهو من جملة الاثنين والسبعين) الذي بشر في الرها ونصيبين. ويذكر ماري بن سليمان في كتابه "المجدل" أن أدي توجه إلى المشرق، وابتدأ بناحية حزة (أربل) والموصل وباجرمي (كركوك) وعاد إلى أُلرها حيث توفي. وتلميذه مار ماري (ت 82م) الذي شفى ملك اربيل من مرض وأدخل مدينته واهلها في المسيحية. ثم انتقل الى باجرمي (كركوك) وساليق وقطيسفون (سلمان بك حاليا) حيث أسس كنيسة كوخي (من الكوخ أكواخ لأنها كانت مشيدة من اللبن والطين) في المدائن التي كانت عاصمة للفرس بعد عام 79م. وتوفي في دير قوني (قرب مدينة العزيزية الحالية 90 كم جنوب بغداد) بالعراق". 

ثم يسرد الكتاب في فصله الاول المعنون " المسيحيون ( السريان الكلدان الآشورين)" سلسلة الاضطهادات المتعاقبة التي طالت المسيحيين وتراثهم "وكان قد ضاع أيضا الجزء الأكبر من الإرث الثقافي والفني للمسيحية في العراق على يد الساسانيين الفرس سنوات الاضطهاد المعروفة في القرن الرابع وخاصة من قبل الملك شابور" وتاليا على ايدي الفاتحين العرب ثم على ايدي المغول والعثمانيين حتى عهد الحكومات العراقية المتعاقبة وماشهدته من مذابح سميل وصوريا وسيدة النجاة ليتناقص عددهم بشكل مخيف عبر هجرات متعاقبة كادت تصل بهم حد الانقراض.

ثم عرض الكاتب لمجموعة المخطوطات النادرة وأماكن تواجدها مابين مكتبات الكنائس والاديرة فضلا عن المكتبات الشخصية والمبعثر منها لدى شخصيات كنسية وعلمانية، موضحا ماتمت فهرسته وتحقيقه منها فضلا عن المحفوظ منها في مركز صيانة المخطوطات في دير الآباء الدومنكان في الموصل-قرةقوش. حيث "قام مركز التوثيق الذي يديره الأب نجيب ميخائيل بتصوير هذه المخطوطات التي تحفظ الآن في أماكن تواجدها الموصل وتلكيف وكرمليس في ظروف مناسبة بحسب المطران إميل نونا رئيس أبرشية الموصل وتوابعها"

ينتقل الكاتب تاليا في الفصل الثاني إلى الايزيدية التي يرى انها:" الأيزيدية أو اليزيدية ديانة عراقية موغلة في القدم يرى فيها بعض الباحثين الكثير من المعتقدات والعادات العريقة والتي ترجع الى عهود تاريخية تعود جذورها الى الالف الرابع قبل الميلاد، وتمثل برأيهم اصدق تمثيل لتفاعل الديانات القديمة؛السامية (البابلية الآشورية) والهندو اوربية (البرهمية- الزرادشتية- المزدكية) والعراقية (المانوية والصابئية)،  فضلا عن ذلك يرى بعض آخر في هذه الديانة مبادئ وطقوس من الأديان السماوية اليهودية والمسيحية والإسلامية". ثم يعرج الكاتب على اصل التسمية، المعتقد، الشخصيات المقدسة، الاعياد الدينية، الصلاة، الاضطهادات، النصوص الدينية والتراث الثقافي والنفوس والتوزيع السكاني. اخيرا يورد الكاتب خلاصة لبحثه حول الايزيدية: 

"من خلال البحث في المصادر واللقاءات مع بعض المثقفين والمسؤولين والزيارات لبعض المناطق توصلت إلى استنتاج بأن تراث الايزيديين يسير سريعا نحو الاندثار ما لم يتم انقاذه بسرعة". والحقيقة ان تصفح فقرة الاضطهادات التي تعرض لها الايزيديون فيه الكثير الكثير من البطش والقمع اللانساني مما يدمي القلب ويدمع العين. 

في جزء آخر من الفصل الثاني يعرض الكتاب للصابئة المندائيين واصل التسمية واللغة والجذور والمعتقدات و التعميد والوجوه المقدسة لديهم وهنالك بالتاكيد الاضطهادات المتوالية عبر القرون المتعاقبة لذا فهم مستمرون بالتناقص بحسب شهادة قادتهم.

"ومن الجدير بالذكر ان العديد من المخطوطات المندائية كانت قد تُرجِمَت الى العربية وطُبِعَت، وبضمنها كنزا ربا، دراشا ديَهيا، حاران كاويثا، زواج شيشلام ربا، واساطير اخرى متنوعة. والمخطوطة الاكثر اهمية ترجمت الى اللغة الالمانية من قبل مارك ليدزبارسكي (1869-1928)والى اللغة الانكليزية من قبل دراور( 1879-1972). وبحسب راي الشيخ نصرت، فان الاقلية المندائية تمتلك مكتبة في معبدها (ماندي) في بغداد والتي تحوي حوالي 5000 كتاب مطبوع لتاريخ والدين والميراث الثقافي للمندائيين. بعض الشخصيات البارزة في العراق هم من الجماعة المندائية، ومن بينهم الفيزيائي المشهور عبد الجبار عبدالله(1911-1969) والذي كان رئيس جامعة بغداد في سنة 1959 ، والشاعرة المعروفة لمياء عباس عمارا (المولودة في 1929) احدى رواد الشعر الحر في العراق وشاعرة مشهورة على صعيد العالم العربي. وهناك ايضا شاعر مشهور اخر وهو عبد الرزاق عبد الواحد (المولود في 1930)".

ونلاحظ ان الكتاب أورد اسم الشاعرة لميعة بشكل مغلوط وسماها لمياء، ربما يعود ذلك الى ان الكتاب وضعه الراحل الدكتور سعدي المالح باللغة الانكليزية اساسا ثم صدرت بعد وفاته النسخة العربية منه والتي يلاحظ فيها كثرة الاخطاء اللغوية والنحوية فضلا أن التباسات الترجمة من الانكليزية الى العربية.

الفصل الثالث مخصص لديانتين "من أصل ايراني"، بحسب الكاتب، الا وهما الكاكائيون والبهائيون. والجدير بالملاحظة فيما يخص الكاكائيين "أن اغلبية المعلومات التي تخص تكوين اهل الحق وتطورهم وتوسعهم كما هو الحال بالنسبة لعقيدتهم وتقاليدهم، قد تم حفظها ونقلها شفهيا على  شكل "كلام" او مفردات من جيل الى آخر. ولذلك فمن الطبيعي ان يكون التسلسل والتزامن الزمني  بطريقة او باخرى مشوها، لكن المعنى والاسلوب والنغمة الصوفية تبقى سليمة الى حد كبير. وهذا الكلام او النصوص الشفهية كانت متاحة فقط للنخبة التي كانت تقرأها عن ظهر قلب لأتباعها خلال الاحتفالات والاجتماعات. لم يتم تحويل النصوص الشفهية الى نصوص مكتوبة  لقرون عديدة، ولم تكن متاحة ابدا "للغرباء" . 

أما البهائية فهي "ديانة نشأت في ايران في اواسط القرن التاسع عشر من قبل ميرزا حسين علي نوري والمعروف باسم بهاء-الله-(1817-1892)، والذي يعني بالعربية "المجد الله". حجر الزاوية للمعتقد البهائي هو الايمان بان بهاء الله وسلفه، والذي كان معروفا بـ "باب" 1819-1850،والتي تعني في العربية (البوابة)،كانوا مظهر من مظاهر الله والذي في جوهره هو مجهول. مبدأ البهائيين الاساسي هو الوحدة الجوهرية بين جميع الاديان وجميع البشر(..) البهائية تؤمن بوحدة الانسانية ويكرسون البهائيون انفسهم لالغاء الأذى والضرر الذي تحدثه العنصرية والتدين والطبقية. يكمن الدور الكبير للتعليم البهائي في القلق من الاخلاق الاجتماعية ، ليس هناك كهنوت في البهائية ولا يمارس أتباعها أي طقوس او مراسيم".

مع وجود هذا التنوع وهذه الفسيفساء الملونة يخال الانسان نفسه امام لوحة ربانية ملونة كقوس قزح لا أروع ولا أبهى ولكن "اذا بقى الوضع العراقي السياسي والامني على ماهو عليه  في الوقت الراهن، واذا لم تحمي الحكومة العراقية الاقليات من التهديد، فانا اعتقد ان العراق سيخلو من الاقليات خلال العقدين او الثلاثة القادمة. الاقليات في العراق في خطر، وحالتهم صعبة جدا. فلو غادرت الاقليات البلد فان العراق سيخسر ميراث ثقافي حقيقي، ذاك الذي خدم الانسانية لالاف السنوات. هذا الميراث يكمن المحافظة عليه فقط من خلال الديموقراطية في العراق وأقامة دولة مؤسسات قوامها القانون، والمساواة، والعدالة الاجتماعية. ولكن بما ان هذه المسألة تأخرت ولم تحصل حتى الان، فقد اصبحت هناك ضرورة لتدخل الامم المتحدة والمنظمات الدولية لتوفير العون لحفظ وصيانة هذا الميراث".

هكذا يختم د. سعدي المالح كتابه الصادر عن منظمة (جسر الى..) الايطالية ضمن مشروعها الموسوم "كتب للمصالحة" الذي تسعى عبره لجمع مختلف الاقليات العراقية حول المصلحة المشتركة للثقافة والمحافظة على آلاف الوثائق الارشيفية وممتلكات المكتبات. يشار الى ان الكتاب صدر بنسخ انكليزية وعربية وكوردية لكنه موضوع بالاساس بالانكليزية وفضلا عن اخطاء الطباعة واللغة يحفل بالكثير من الاخطاء العلمية فكثير من ممثلي الاقليات التي تحدث عنها الكتاب ممن حضروا حفل اطلاقه (بعد وفاة كاتبه)كانت لديهم ملاحظات عديدة حول المحتوى رغم وجود العديد من المراجع واللقاءات الشخصية المسجلة ضمن مصادر الكتاب.

"إن مواصلة العمل مع جميع الاقليات بالنسبة لـ(جسر الى..)يعني تجنب استبعاد أحد لصالح التكامل والحوار في بلد أمامه طريق طويلة جدا للمواجهة من أجل الوصول الى المصالحة الوطنية الحقيقية". هذه الفقرة مستلة من التقديم الذي دونه دومينيكو  تشيريكو مدير منظمة (جسر الى..) مسبوقة برغبة المنظمة أن "تشكر وتذكر الكاتب سعدي المالح الذي وافاه الاجل فجأة في الاشهر الماضية. لقد كان السيد المالح نورا يضيء شعبه من خلال مساعدته العراقيين والاكراد وأشخاص عديدين على التعرف على فسيفساء مجتمع الشرق الاوسط. فقد قام بعمل فريد من نوعه ومهم للحفاظ على تاريخ وحضارة واحدة من أقدم وأهم الحضارات في العالم" .