عندما تَنهض الأمة يصبح اللص فيها حكيماً، وعندما تكبو يتحول حكماؤها إلى لصوص. كان أبو عثمان الخيّاط من أشهر لصوص بغداد في العصر العباسي، وأكثرهم أخلاقاً، وهو القائل: ما سرقت جاراً وإن كان عدواً لي، ولا سرقت كريماً، ولا امرأة، ولا بيتاً ليس فيه رجل، ولا قابلت غادراً بغدره. ولأبي عثمان وصايا تقرأ فيها الحكمة، والبلاغة، والصدق، والوضوح. كان يوصي زملاءه من اللصوص، أن يأخذوا حقوقهم من مال (الغدرة والفجرة) الغادر والفاجر، وكان يقول لهم في عهده: اضمنوا لي ثلاثاً أضمن لكم السلامة. لا تسرقوا الجيران، واتقوا الحرم، ولا تكونوا أكثر من شريك مناصف. بمعنى تقاسم الثروة مع الغني. وفي هذا الموقف أنشد: أسرق مال الله من كل فاجر وذي بطنة للطيبات أكولُ ومن تلاميذ أبي عثمان في السرقة ابن حمدي العيّار. كان إذا قطع الطريق، فإنه لا يسرق أصحاب البضائع الصغيرة واليسيرة، التي تكون قيمتها دون الألف درهم. ومن تلاميذه أيضاً أبو سيّار الشاطر. كان يخرج إلى السرقة بدافع العدالة الاجتماعية، والتكافل، والمساواة. وفي القرن الثاني الهجري، كان لصوص بغداد من الشطار، والعيارين، والفتوة، يشعرون بجوع الجياع، فيسرقون الأغنياء، ويعطونها للفقراء، ويقاسمونهم الجوع، والحشف، والشظف. ثم جاء من بعدهم الشقاوات في العهد العثماني ليثبتوا أنهم أهل شرف وشهامة ومروءة. من هؤلاء كان عباس السبع أشهر شقاوات بغداد الكرخيين في ذلك الزمن. كان مثال الأخلاق النادرة. يذهب في طلبه كل محتاج فلا يعود خائباً، فإذا تعسر لديه المال سرق بيت غني وأعطاه إلى طالب الحاجة. ومن أجمل قصص التراث كتاب (ألف ليلة وليلة). تقرأ فيه مغامرات لذيذة عن علي بابا والأربعين لصاً من اللصوص الشرفاء. ثم مرت الأزمنة فإذا بنا نقف اليوم أمام ألف لص لا يملكون ذرة من هذا الشرف. وبعض من هؤلاء اللصوص وزراء، ونواب، وساسة، وقادة أحزاب، ورجال مجتمع. قيل إن مسؤولاً فاسداً أراد أن يجعل من نفسه الزاهد، الناسك، العابد، فتقدم إماماً يصلي في الناس، فما كان من أحد المصلين حتى نبّه الآخرين بصوت عال: احذروا هذا الإمام كي لا يسرق منكم ركعة! لهذه النكتة معان عميقة، عندما تريد أن تسخر بمرارة من أصحاب الشعارات (المقدسة)، والمنادين بالعدل الاجتماعي، ودعاة الدولة الكهنوتية، بينما هم يستغلون الدين لمآرب أخرى. الآن، أعيدوا قراءة قصة أبي عثمان الخياط ومواقفه ووصاياه. أعيدوها مرة ومرتين وثلاثاً، ثم قفوا قليلاً عند كثير من ساسة العراق، وقادته، وحكمائه، وزعمائه، ثم احكموا بأنفسكم.
|