تتوفر في يومنا هذا قناعة غير واقعية بضرورة قبول كل خريجي المدارس الثانوية في الجامعات وبتوسيع الدراسات الاكاديمية المؤدية لشهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه حتى وان لم تتوفر الامكانيات المادية والبشرية للجامعات لتحقيق ادنى المتطلبات الاكاديمية والمهنية وبأقل المهارات التي يتطلبها سوق العمل، لذا ازداد عدد الجامعات وازداد عدد الطلبة في التعليم العالي بينما تضخمت إدارات ومؤسسات الدولة بخريجين لا حاجة حقيقية لاختصاصاتهم، وازدادت البطالة الحقيقية والبطالة المقنعة. احد اهم اسباب البطالة بين خريجي الجامعات هو عدم الربط بين اهداف الجامعة وحاجة سوق العمل، وفي عدم تحقيق اهم متطلبات سوق العمل وهي غرس مهارات الاتصال والتواصل وحل المشكلات والابداع والمبادرة. فهل تعطي جامعاتنا أهمية رئيسية لتدريب هذه المهارات، أو أنها لا زالت تؤكد على العلوم الأساسية من فيزياء وكيمياء ونبات وحيوان وفلك، وعلوم اجتماعية وتاريخية وجغرافية وأدبية وفلسفية؟ لا أحد يطعن في ضرورة تدريس هذه التخصصات، فهي ضرورية للارتقاء بالوسط الجامعي والمجتمع إلى وسط للإبداع والاختلاف وخدمة المعرفة، ولا احد يريد تهميش العلوم الإنسانية والاجتماعية، لان لهذه العلوم دور ومكانة في بناء المشروع الاجتماعي الذي نسعى لبنائه. لكن ألن يكون من المجدي أن يمارس قدر من التميز الايجابي بما يراعى حاجة السوق والمجتمع والتنمية؟ هل أن عدم تمكن الجامعة من التكيف مع احتياجات سوق العمل يعود الى أنها لازالت أسيرة تاريخها وتقاليدها، أو أن سياساتها لازالت أسيرة الاختصاصات التدريسية التقليدية المتوفرة بكثرة؟ لماذا نضع التعليم الاكاديمي في مرتبة اهم من التعليم التقني والمهني؟ ايهما اهم للاقتصاد الوطني دراسات الماجستير والدكتوراه المعتمدة على بحوث لا تشبع ولا تروي، ام التدريب التقني والمهني الذي يساعد الشباب إلى اكتساب المهارة لمهنة المستقبل، والتدريب الموجه لكبار السن بهدف تحسين مستواهم المهني؟ التعليم العالي يحتاج الى استراتيجية تعتمد على تلبية حاجة السوق والمجتمع وليس لمجرد تلبية رغبة اجتماعية للتميز والتباهي والتفاخر، وللتباري مع دول العالم في معدلات التعليم العالي وعدد الشهادات العليا. ان الاستمرار في انتاج خريجين في التخصصات الاكاديمية العلمية والأدبية بغض النظر عن عدم احتياج سوق العمل والمجتمع يؤكد على فشل نظام التعليم العالي وخضوعه الى رغبات سياسية قصيرة النظر تهتم بالكم وتهمل النوع، والى عقدة اجتماعية مستأصلة في اهمية الشهادة الاكاديمية. يتطلب تحقيق هدف التعليم العالي في توفير الاختصاصات التي يحتاجها سوق العمل الى تغير جذري في نظرتنا الى اهميته وجدواه والى اعادة صياغة اولوياته. بلا شك ان سوق العمل يحتاج الى الاختصاصات التقنية ولذلك فانه يتوجب على التعليم العالي تلبية احتياجات التعليم التقني والمهني وتوفير الفرص التدريبية لسد الفجوة الناشئة عن تراكم عجز الايدي العاملة لتلبية الطلب من قبل مختلف النشاطات الاقتصادية الوطنية. من المهم ان يتم تحديد الاحتياجات المستقبلية من التخصصات التقنية وفقا للمعلومات المتوفرة بالعمالة المدربة، ووضع خطة استراتيجية متكاملة تتضح من خلالها الرؤى المستقبلية من التخصصات الضرورية بدلا من الاسراع في مشاريع غير مدروسة كمثل قرار الغاء هيئة التعليم التقني، واستبدالها بأربع جامعات تقنية. عندما ترتبط الجامعات فعليا بالسوق والمجتمع تصبح في جوهرها جامعات تضع في صدارة اهتماماتها التدريب المهني والتقني فتتحول الى جامعات للتدريب اولا، ولانتاج ونشر المعرفة ثانيا. الصدارة للتعليم المهني التعليم التقني والمهني يجب ان يأخذ الصدارة في الاهتمام بأنواع التعليم وأولوية على التعليم الاكاديمي العلمي والأدبي، وهذا يتطلب تغيير تقاليد التعليم العالي، بالإضافة إلى تغيير النظرة الدونية للحِرَفْ والمهارات التقنية باعتبارها تكتسب بالخبرة وليس بالدراسة الجامعية الرصينة. لابد من القضاء على ثقافة "العيب" المهني المنتشرة في مجتمعنا، والتي تحول دون دخول الكثير من ابناء هذا الشعب الى المدارس والمعاهد والكليات التقنية فهي كما يبدو مخصصة للفقراء والفاشلين. حقيقة وضع القوى العاملة في العراق هي انها ليست مؤهلة التأهيل المطلوب، إضافة إلى أنها غير مستغلة بكفاءة وفاعلية. بإلقاء نظرة على سياسات الدول الصناعية بخصوص التدريب المهني والتقني سيساعدنا على تبني سياسات صائبة على مستوى التعليم الثانوي والجامعي. على سبيل المثال يعتبر نظام التعليم الفني والتقني من اهم العوامل التي ساهمت في تقدم الدول الصناعية حيث ينظر إلى التعليم المهني والتدريب كجزء أساس مكمل للحياة، بل ينظر إليه باعتباره وسيلة رئيسة لتحسين رفاهية المجتمع. في المملكة المتحدة اتضح لاصحاب القرار أن من بين أسباب تراجع بريطانيا كقوة اقتصادية صناعية عدم اهتمامها بالتدريب المهني، الأمر الذي حدا بهم إلى التأكيد على ضرورة تنشيط وتحفيز هذا النوع من التعليم والتدريب على المستوى المحلي. ونتيجة لذلك فقد ظهرت عدة قوانين وهيئات ولجان ذات صلة بموضوع التعليم المهني والتدريب مما اصبح اليوم أساساً قوياً لمنطلقها واستمرارها الصناعي والتجاري كدولة متقدمة. ولتحسين صورة التعليم المهني، وضعت الصين التعليم المهني الأولي والتدريب في مستوى التعليم العالي. وبذلك تمكنت من مضاعفة عدد المتقدمين للدراسات المهنية والتقنية في الجامعات خلال فترة 5 سنوات. في نفس الوقت ساعدت السياسات الحكومية على تسهيل انتقال الطلاب من مدارس التعليم العام الى المدارس المهنية وشجعت البنات على التقديم في الدراسات المهنية وتفوق نسبتهم على نسبة الاولاد. كما تظهر تجارب الهند وكوريا الجنوبية، وروسيا في تطوير وتحسين التدريب المهني في المدرسة والجامعة نجاحا كبيرا نتيجة تحسين العلاقة بين المدرسة والجامعة من جهة، وبين المصانع والمؤسسات الزراعية والطبية من جهة اخرى. ولأهمية التدريب المهني وتوفر فرص العمل واحتياج الاقتصاد للمهارات، وصلت نسب الطلاب في المدارس والجامعات التقنية في الدول المتقدمة الى 45% مقارنة مع معدل لا يتعدى 5% عندنا في العراق. في النهاية، نرى أن هناك ثمة حاجة إلى إصلاح نظام التعليم الجامعي بما يتضمن من مراجعة التخصصات الحالية، واستحداث التخصصات الرئيسية والفرعية والمطلوبة بناء على احتياجات سوق العمل، ومراجعة البرامج والخطط الدراسية من حيث المناهج وعدد الساعات وطرق التدريس والتركيز على الجوانب العملية والتطبيقية، وتوجيه الطلبة نحو الدراسات التي توفر لهم فرص العمل، وان تصبح الجامعة بالإضافة إلى كونها مؤسسة أكاديمية جهاز تدريب لاشباع مطالب سوق العمل الوطني وأولويات الأسواق العالمية. كما وهناك حاجة إلى تحسين التعليم المهني والتقني لتعزيز قدرات ومهارات القوى العاملة بالتركيز الشامل على تطبيق معايير الجودة والتميز وإعادة الاعتبار لهذا النوع من التعليم، وتحسين صورته وتثمين الثقافة التكنولوجية، وجعل مؤسسات التعليم التقني قادرة على الاستجابة للاحتياجات المتغيرة لكافة القطاعات الصناعية وكذلك للأفراد المستفيدين من خدماتها التعليمية وتمليك الطلاب القدرات الرئيسية لسوق العمل والتي تشمل مهارات الاتصال والتخطيط والتنظيم والعمل الجماعي والتعاوني والقدرة على حل المشكلات واستخدام التقنيات الالكترونية والتعلم الذاتي. نشرت في جريدة المدى، عدد 3295 ، 23 شباط 2015
|