هُدْهُدَ سُلَيْمَانَ في كَشفِ رُوحِ الأَماكِنِ في الْقُرْآَنُ

 

الحمدُ للهِ الفَردُ القيُّوم الذي لا تأخُذُه سِنة ولا نُعاسٌ ولا نَوم المُتجلِّي على عِبادهِ بأسمَائِه الحُسنَى وصِفَاتِه العُليا , فهوَ الحيُّ الذي لا يموتُ , وهوَ  الملكُ الكَبيرُ الذي بيَدهِ الملكوتُ . فهوَ الذي تقصُر عن وصفِ عظَمَته الصِّفات والنُّعوت  ,وعجِزَت اللُّغاتُ عن وَصف شأنِه  وكنههِ والجَبرَوت , وهوَ الذي يُسبِّح بحَمدِه مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ وسَبَّحه يونسٌ من جوفِ اليهمُوت , وهوَ العَظِيمُ الذي أوحَى لعَبدِه الأَوفَى  ,صَاحبِ الأخلاقِ والصِّفاتِ الأسمَى , المحمِيُ بخيطِ العَنكبُوتِ الذي وَرَدَ ذِكرُه بكلِّ الألواحِ والرِّسَالاتِ والكُتُبِ وما يُتلى في المسَاجِدِ والأديِرَة والبُيُوت , يا مَن كانَ ذِكرُه يُغنِي عن إدِّخارِ المالِ  ,واكتنازِ الذَّهَبِ واليَاقوتِ ,عجِبَ موسى من خَرقِ السَّفينة  ،  حينَما امتلأت من الزَّكاةِ البيُوت ,  فهو البَلسم وهو التِّرياق المُجرَّب وهو المُجاز بدُخُولِ الحَضرُوت , اللَّهُمَّ صلِّ عَليهِ في كُلِّ آنٍ وزمانٍ وفي كلِّ سَماءٍ وفي كلِّ مكانٍ , واجعَلِ اللَّهُمَّ  صَلاتنَا عليهِ قُوتَنا في كلِّ الأحيَان  , وفي متقَلَّبِنَا  بينَ الأماكِن والبُلدانِ , فمِنهُ تصدُرُ الفُيوضُ الرَّحيميَّة , والإشعَاعَاتُ الملَكوتيَّة , وبهِ تُبلَغ المقَامَاتُ الرُّوحيَّة وتُنالُ الوِلاياتُ النَّبويَّة  ,خالصَةً  وحصريَّة لأمَّتهِ المصطَفَوية , وأصلِّي على فَصِّ خَاتمهِ الموعُودِ بالنُّزولِ في أمَّة خَير البَريَّة , الموصُول بالآيَاتِ من قَبلِ الوجُودِ ومن قبلِ خروجِ الدَّابَّةِ الأرضيَّة , سيِّدي وإمَامِي المسِيح المعهُودُ ظِلُّ النَّبيِّ الممدُود وعينُه المرفُود , وعلى الآلِ والصَّحبِ  والآخَرينَ المشَارِ إليهِم في التَّنزيل  الحَكيمِ في سورَة الجمُعَة بلا تأوِيل ..

إنَّ لله تعالى  معَاني وأسراراً  وأواني لا يدركُها إلا المتفَاني في حضرَةِ المُصطَفى العَدنانِي  , النَّبي النُّوراني  .  والسَّرُّ الصمداني أكنَنَها في كتَابه القُرآني وفي بيَانِه الرَّبَّانيِّ ,  فلا يمسُّهَا إلا الطَّيرُ الرُّوحانيِّ , من تنعَّمَ الله علَيه بفيُوضِ الرَّحمانِ  ,فأنطَلقَ في السَّماءِ الرُّوحَانيِّ , فأدرَكَ مَواقِعَ النُّجُومِ و أقسَم بها علَّامُ  الغيُوبِ وإنَّه لقسَمٌ لو تعلمُون عَظيمٌ لا يُدركُه إلا مَنْ اغترَفَ من التَّسنِيم  , وكانَ الرِّضَا بضَاعَتُه قبلَ الَتَّفهِيمٍ ,   ولاجِدالَ عقِيم ,بل استَقامَ  للتَّقويم , فمَا فُتح على هذا العَبدِ كاتِبِ السُّطورِ إلَّا مِمَّا نفَخَ فيهِ الوَليُّ الإمامُ أحمدُ المسرور, و المفطُور على بيَانِ الأسرارِ بالحبُور , وعلى الإفهَامِ بلا فُطُورٍ أو نَقصٍ أو قُصُورٍ

فأقولُ : إنَّ لجُغرافيَا الأمَاكِنِ في القُرآن سِرٌّ وأسرَارٌ , تنكَشِف عبرَ الأزمَان بفِقهِ الأروَاحِ والتَّدبُّر بما هُوَ مُتَاحٌ من أدَواتِ الرُّقِيِّ  والفَلاحِ 

يَقولُ الله تَعالى وُاصِفاً الوحيَّ بِالماءِ النازِلِ مِنَّ الَشَماءِ فَقالَ 

{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ }الرعد17

فَكانَتْ الأرضُ وديانٌ لِتِلكَّ الأَمطارِ لتَحتضِنها بِحَسَبِ الإِسّتِطاعةِ فَمِنْهَا ما هوَّ صالحُ فيربو فيه وينمو الخير ومِنهُ ما هو طالحُ فيخبو ومنهَ ما هو مُتنوعٌ فيتنوع 

فعندَما أشَار الرَّب  إلى بِعثَةِ مُوسَى الهادِي لبنِي إسرَائِيل المحُذِّرُ لهم مِن يَومِ التَّنادِي  ,فنَادَاه من جانبِ الطُّورِ بالوادِي فقالَ له بالنَّصِّ : 

(إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى  )

فكانَت الشَّريعَةُ الموسَويَّة مبدأها في وادٍ مقدَّسٍ وليسَ على الجبَلِ , رغمَ أنَّه كانَ بجانِبِ الطَّور فقالَ الله تعالى :

(فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ )

والمتبحِّر بالعُلومِ ومُدرِك إشَارات الأنبيَاء والفُهُوم  ,يعلَم كلَّ العِلمِ أنَّ دعوَتَه مِن جَانِبِ الطُّور والنُّزولِ لا الصُّعودِ , فيها معَانٍ وأسرارٍ وكهنوت , فالمنَادة إلى الوادِي للدَّلالة  على أنَّ الشَّريعَة تلكَ ليسَت للتَّعالي أو بلوغِ المراقِي كالتي سَيُلقاها صَاحب الحضرَة نبيُّ الفِطرَة المختَلي إلى ربِّه بالغارِ المستأنَسِ بالحَضرَة فقَد كانَ مبعَثُ الحَبِيبِ بالغَار والكَهفِ فَوق الجبَلِ ,  أعلى الصَّف , في أعلى نُقطةٍ من الوادِي  عَديمِ الزَّرعِ  ,وكانَ مبعَثُ الكَلِيمِ في وادِي سَحِيق  , كانَ بجانبِ الطُّورِ , وكانَ قد سَبَقَ لهُ التَّقدِيسِ ورفعِ التَّوحِيد بلا تَدلِيس ، فمُوسَى بُعث لبَني إسرَائيل وارثِي النُّبوَّة وعِلمِ التَّأويلِ , وكانَ لهُم حُظُوظٌ مِن التَّنزيل  , فقَد حَصَل لهُم التَّقدِيس مِن قَبلِ موسى عليهِ السَّلام فقَد كَان التَّوحيد فيهِم مزرُوعاً , ولكِنَّ الوالي المُتعَالي بَعدَ أن أنزَلَ إلى مُوسَى الرِّسَالة وتفضل عليه برداء النُّبوَّةِ , أشَار إليهِ أن يَصعَدَ الجَبلَ وواعَدَهُ لأربعِين ليلةٍ وفي الأربعِين سرٌ خَطيرٌ سنُشِير إليه في بحثِ المعدُود في القُرآن المشهُود فقَال تعالى :

(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) 

فتجَلِّي الله تعالى عَليهِ عندَ  الجبَل التَّجلِّي الأعظَم  , التَّجلِّي على المُصطَفى الأتمِّ فخَرَّ مُوسَى صعِقَاً بعدَ أن دَكَّ الجبَل دكَّاً دكَّاً وإليهِ أشَارَ القُرآن في الأخبار ِ

(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )

لذلكَ لاحِظ الحِكمَة من المَكانِ ففي هذا المعَاني وعِلَلِ البيَان ...

ويقولُ الله تَعالى عن إبرَاهِيم عندَما أرَادَ أن يؤسِّسَ لبيتِ الدِّين ونِظَامِ المؤمِنين 

(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ )

وفيهِ بيانٌ وإشَارةٌ وإتقَانٌ فقَد كانَ هوَ البيتُ الأوَّل المترُوك بعد تفاوتِ الأزمَان والتَّنصُّت والسُّكوت فأقفَرَ من الدِّين ومِن الزَّرعِ , ومِنَ المعِين , فلو كانَ مثمِرا بأثمارٍ ضارَّةٍ لقيلَ كانَت قَبله أثمارٌ , فأينَ الإعجَاز وأينَ الإنجازُ ؟! فتُرك بلا زَرعٍ وبلا مَاءٍ للدَّلالة على البَدء في الوَحي المتِين البَليغِ الرَّصِين  , لذلك َكانَ لا بدَّ من مَاءِ زمزَم للدَّلالة علَى بَدءِ الوَحيِ الأتمِّ فكما أحيَى الماء المَاءُ الزَّمزَمِيُّ الأَرضَ المقفِرة المُكفهِرَّة نزَل الوَحي بالتَّنزيلِ , وأقَامَ البَيتَ بالأعمِدة والطِّين فبثَّت به الحياةُ بعدَ الموتِ , وانتَشَرت فيهِ المراعِي بعدَ أن كَان رِمَالاً بلا مَبَاني . وفيهِ قامَت العِمَارات , ورُزقَ أَهلُهُ من كلِّ الثَّمَرات ,ونالَت بهِ مَكَّة إمرة القُرى والبِنَايَاتِ فكانَ الوادِي المكِّي المقفِر مِن الأشجَارِ للدَّلالَةِ عَلى بَدءِ تأسِيسِ التَّوحِيدِ الأصفَى والدِّينِ الأنقَى وعَادَ إليهِ التَّقدِيسِ بنزولِ الماء السَّماويِّ . فقَارِن أيُّها الحَبِيب بيَن وادِي مُوسَى الكَليمِ , وبينَ وادِي الخَليلِ,  وتمعَّن في لُطفِ المعَاني وبَدِيعِ صُنعِ الأوَاني , فيا إلهِي سبحَانَك كَم أنتَ لَطِيفٌ بالمعَاني وبِعَبِدكَ المُتفَاني في حُبِ محبُوبِك الربَّاني .

وتعالى الى دقيق المعاني لترى ان الوحي في السماء الروحاني يتنزل من الشياطين فتتلقاه الأودية الخبيثة بالضم والهيمان واليه دل قوله الفصل 

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ{221} تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ{222} يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ{223} وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ{224} أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ{225} وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ{226} (الشعراء) 

وتعالَ معِي أيُّها الرَّفيق الصَّاحِبُ بالتَّدقِيقِ لنَتنَاوَل قصَّة المسِيح في الإيوَاء فقَالَ : 

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ )

فكَانَ إيواءُ المسِيح إلى رَبوةٍ عَاليةٍ فيهَا الاستِقرار والأنهَار , وتعَالَ معِي لقَولِ اللهِ تعَالى لَهُ في المحنَة (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) 

فكَمَا رُفِع بالقَدَر والمنزِلة تم إيواءَه إلى المُرتَفَعِ  مِن الأرضِ وإلى أرضٍ فيها الينَابيع والأنهَار فكَلام الله  تعالى هوَ الماء المنهَمِر وإليهِ أشارَ الوَحيُ بالإشهار : 

((وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ )

فكانَ إيواؤه إلى كشمِير حَيثُ استمَرَّ بالكَلام بكلامِ النُّبوة في سِنِّ الكُهُولة , فاربِط أيُها التَّقي ولا تُبَالي