نـــــذرٌ ومــقــبــــــرة |
الذي لايصدقه اي بشر .. ان امي عندما تشتد المعارك في جبهة يكون فيها احد اولادها .. تنفذ نذرا عجيبا .. ان تبقى طوال الليل عارية فوق السطح حتى لو كان الموسم شتاء املاً بعودة ولدها سالما ، وفي ليلة باردة دخلت من معركة الفاو العنيفة جدا .. ولما سألت اختي عن امي ؟ قالت انها على السطح .. تسلقت سلالم السطح .. ورأيت امي عارية ومتكورة على جسدها وترتعش .. سمعت ارتعادة شفتيها ..خلعت قمصلتي العسكرية وغطيتها .. لما رفعت رأسها وتأكدت من وجودي ..امالت بوجهها وقبلت قدميّ .. ياه .. رفعتها بين احضاني .. كان جسدها يرتجف بين ذراعي .. وكنت اسمعها تردد بشفاه مرتعشة : رايتك " بيضة " بيضاء ربي ، تذكرت ذلك المشهد المؤلم الذي لا يمكن ان يبلى من ذاكرتي حين قلت لصاحب التاكسي خذني الى المقبرة، هبط من السيارة .. ونظر بوجهي ثم سألني القديمة ام الجديدة ؟سألته باسما لماذا هبطت من السيارة ؟ لأن طلبك لم اسمعه ابدا .. انا سائق تاكسي منذ عشرين سنة في كربلاء .. لكني لأول مرة اسمع من يسعى لزيارة قبور اهله في ساعة متأخرة من الليل ، سألتهُ هل تخاف مني ام من المقبرة ؟ اجاب خجلا بصراحة منك ومن المقبرة ، اجبته سأبحث عن غيرك اذن..انصرفت عنه لكنه لحق بي وامسك بكتفي وقال استاذ لماذا انزعجت بسرعة ؟ قلت ابدا .. لكن وقتي قصير جدا ، سألني حسنا الى اية مقبرة تسعى ؟ اجبته وقد نفد صبري .. الجديدة ، ظل واجما لحظات ثم هز رأسه ولمعت عيناه بالدمع قائلا لم ازر قبر امي وابي منذ سنوات وانا اعيش في كربلاء ، اجبته هي فرصة حتى تزورهما ايضا ، فتح باب السيارة وهتف تفضل استاذ ، ركبت على المقعد الذي بجواره .. كانت سيارته حديثة وشممت رائحة خمرة بائتة فيها لكني تغافلت عن ذلك بينما كان مذياع السيارة يبث دعاء كميل .. اخذني على شارع لم اعرفه من قبل .. وماهي الا دقائق حتى رأيت نهر الحسينية .. تنهدتُ ارجوه ان يتمهل قليلا ..خفف من سرعة العجلة .. ولما حدقت بماء نهر الحسينية رأيته يشبه سواد الليل .. لم ار موجة ماء ، انما رأيت ظلاما سادرا ولولا خرير الماء لخلت ان النهر كان عبارة عن مجرى ظلام .. شعرت ان السائق ارتبك قليلا فأخرجت علبة سجائري وقدمت له سيجارة .. نظر خطفا الى علبة السجائر وتبسم ثم تنهد خائفا.. مارلبورو .. لكم احب هذه السيجارة ..دخنها بنهم والسيارة تلتهم الشارع كبعير هائج ولما وصلنا الى سيطرة عسكرية تسبق المقبرة .. اقترب احد الحراس وكان يضع قناعا صوفيا على وجهه من شدة البرد ، لم ار سوى لمعان عينيه .. انحنى وابصرنا ثم سألنا بملل، بعد ان بصق قشر حب الشمس على السائق دون ان يقصد ذلك .. الى النجف ؟اجبته كاذبا حتى اتخلص من سؤاله الغبي نعم اشار بيده ايذاناً لمرورنا ولفظ قشر حب الشمس مرة اخرى الى الشارع .. انطلقت السيارة ماهي الا دقائق حتى وصلنا المقبرة .. اعترضنا حارس يبدو عليه النعاس اخبرته كاذباً بثقة ؟! انا علي النوّاب من اذاعة محافظة كربلاء ، تراجع الحارس الى الخلف وسمعته يردد اهلا استاذ .. نسمع برنامجك الشجاع في كل صباح .. انت تاج على الرأس ارتبك السائق .. وتلفت نحوي .. وقال بخشوع اعتذر استاذ انا اسمع صوتك كل صباح لكني لم ار وجهك الا اليوم ..لم اقل شيئا .. لأن قلبي بدأ يخفق .. كانت مقبرة العائلة في بداية الطريق .. طلبت منه ان يتوقف وقلت له اذهب لزيارة قبر امك وابيك .. انتظرك هنا بعد نصف ساعة .. هبطت من السيارة .. وتوغلت في ممر مظلم بين القبور سلكته قبل خمس سنوات آخر مرة .. كنت الهث من شدة الشوق ولما وصلت الى المقبرة رأيت ضوءا يشع من قبر امي .. لا من قبر ابي .. لا من قبر اختي .. لا لا .. كانت السماء تضيء بنجومها .. زحفت على يدي الى قبر امي لامست ترابه واستنشقت رائحة اجمل من كل عطور الأرض .. انهمر دمعي .. كان يتساقط مثل رطب جني .. وبكيت .. بكيت بحرقة .. ثم نهضت لكن اسايّ اقعدني على عجيزتي .. جلست لدقائق ابكي .. كنت اناشد دمعي ان يستمر حتى الموت .. لكني نهضت لامست قبر ابي واختي وباقي قبور العائلة بيدي .. ثم تركت المقبرة .. وجدت السائق ينتظرني .. صعدت الى جواره وانطلق بالسيارة .. كان كل شيء يلفه الصمت .. الا نداء امي ظل يتردد في اعماق روحي .. ليلة التحاقي الى شرق البصرة .. يمه حسن .. ارحمني .. لا اريدك تمت قبلي ؟؟ |