غريب هذا العراق



بدأتِ الفوضى الخلاقة التي منحتها سيدة الديمقراطية، والعين الأمينة الساهرة على حقوق الإنسان تؤتي أكلها إلى شعب العراق، وتنتشر في كل بقاعه لتشكل حاضنات لإراقة الدماء، ومجانية الموت، ففي بلد العقل والتعقل، وعلى أرض الحكمة والشعر والبلاغة، أقفل العقل أبوابه وغادر هارباً ممّا يحصل، وبدأت الحياة تُفرغ ما في جوفها من قيم راقية، وانقلبت إلى علبة فارغة لا تصلح إلا للنقر عليها.
ومع انطلاق الربيع الأسود الذي بشرت به سيدة الدول العظمى، وأشرفت على ولادته، ورعته في أحضانها، تمخض عن ولادة عصابات إجرامية لا همّ لها سوى العبث بقيم التاريخ والجغرافيا، وتدمير كل ما له صلة بالحياة، من أجل أن يكون الربيع أسود الوجه، قبيح المنظر والجوهر، وأصبح الصراع يستهدف حضارة العراق وتاريخه، ويسعى إلى ردم قنوات التفكير التي تبحث عن المستقبل، انطلاقا من بديهية مفادها، أن من يريد استهداف قيم الحياة عليه بتغييب الهدف الذي تناضل من أجله الشعوب.
في جميع البلدان، ومن أقصاها إلى أقصاها، تناضل الشعوب من أجل الوصول إلى حياة حرة كريمة تتنعم بها، وإشاعة أجواء الفرح والانسجام والتفاهم، وفي بلد المواعظ الرخيصة، والشعارات المنغولية المتطرفة، تبدأ عصابات الشر والرذيلة إلى جعل الحياة إسطبلات ومواخير للظلام والقهر والعبودية، وتحطيم التراث العراقي بكل أساليب الوحشية والانتقام لطمس الهوية الحقيقية، واستبدالها بهويات مزورة لا تعبر عن المصالح العليا للوطن، ولا تتناغم مع طبيعة العراقيين جميعاً. وفي كل بلدان وشعوب العالم، قوانين واضحة وأعراف راسخة، تحاسب وتقف بوجه من يتطاول ويسرق أموال الشعب، ويتلاعب بمصيره، وفي بلد التاريخ المثقل بكل صنوف المتناقضات، تُسرق أموال الناس في وضح النهار، ويفرض السارق على المسروق ضريبة التصفيق له، وإقامة احتفالية الثناء والمدح لشخصه الكريم.
من يضرب لنا مثلا لبلد عاش بهذه الفوضى مثل العراق؟! ومن يعرض علينا صورة مشابهة لعصابات قتلت وسرقت واستهدفت التراث مثلما هو حاصل في العراق؟! ومن يمنحنا صورة شعب أريق دمه بهذا الأسلوب الهمجي مثلما حصل لشعب العراق؟! فهذا البلد لا يحتاج إلى لغة الكواليس المغلقة، ولا إلى مهارة التفنن في تمرير ما يراد تمريره، فكل الأفعال تمارس على الهواء مباشرة، تحطيم آثار العراق يسير تحت ضوء الشمس، مخطوطة التوراة المسروقة تصل إلى إسرائيل وسط كرنفالات تعرضها فضائيات العالم، وعصابات داعش تحطم وتعبث بآثار نينوى في عز الظهيرة، ومسلسل التفجيرات والقتل والتهميش والتهجير يسير جنبا إلى جنب مع حياة الفقراء في الشوارع والساحات، والسرقات والسطو على المال العام يكشف عن عورته أمام أنظار الجميع، فهل رأيتم أيها السادة بلداً مثل العراق؟!
إلى اللقاء