جبال كوردستان ومهاباد وآراس وسنوات المنافي وثورة ايلول، أبلغ وأصدق انباء من الكتب

 

 

يوم رحل البارزاني مصطفى، في الاول من آذار عام 1979 ، بكت الامة الكوردية من أقصاها الى اقصاها حزنا والما.. وودعت قائدا وأبا عظيما يتمتع بكل الصفات والسمات القيادية الرفيعة من ذكاء متقد وحكمة وقدرة عالية على ادارة الازمات والتعامل معها بحنكة واصرار لا يلين.
يظل من يتحدث عن الكورد كشعب تواق للحرية، ومتطلع نحو مستقبل مشرق، تتحقق فيه أمانيه القومية والانسانية وفق معايير حقوق الانسان المشروعة والقيم الدينية والمواثيق الدولية، ومن يرفض الصهر القومي والتغيير الديموغرافي والعنصرية والشوفينيات الضيقة، ومن يستنكر ممارسات الانظمة الخارجة عن القانون التي تعاقبت على كراسي الحكم في بغداد، ويدين حروب الابادة التي إستهدفت الكورد، ومن ينظر الى نضال البيشمركه بإنصاف، يذكر و يتذكر الرمز الوطني والقومي في حياة الشعب الكوردي، المرحوم الخالد مصطفى البارزاني، الذي ولد في 14آذار 1903 وقاد خلال سنوات عمره ثورات قومية متتالية، وناضل طويلا وقاوم الظلم والعدوان والدكتاتورية، وأسس حزبا سياسيا كوردستانيا قدم الكثير من التضحيات من خلال حركة تحررية وطنية وثورات متتالية، وشارك بفعالية بالغة في وضع اللبنات الاولى لجمهورية كوردستان في مهاباد، وخلال اكثر من نصف قرن من النضال المتواصل أسس البارزاني الخالد مدرسة نضالية لها تقاليدها وأخلاقها وجذورها وقيمها وقد تغلغلت مبادئ هذه المدرسة داخل النسيج الاجتماعي لشعبنا الكوردي واستقرت في وجدانه، واستطاع الخالد ان يقود اطول ثورة كوردية في تاريخ الكورد واعظم حركة قومية تحررية، وبقيادته انطلقت في ايلول عام ١٩٦١، ثورة عارمة تميزت خلالها العلاقات العربية – الكوردية بخصوصية كبيرة إستندت على أسس التلاحم المصيري المشترك، والرغبة الصادقة في نبذ الاستبداد ومقاومة الطغيان والتطلع إلى الحرية، ثورة إشترك فيها الكوردستانيون جميعا، أرغمت حكومة البعث في ١١ اذار من عام ١٩٧٠ على التوقيع على اتفاقية أقرت بموجبها بشكل رسمي الحقوق الاساسية للكوردستانيين.. بعد مرور فترة قصيرة على توقيع اتفاقية اذار للسلام، حين زاره وفد من بغداد تقمص أعضاؤه شخصيات رجال دين في 29 ايلول، تعرض البارزاني الخالد الى محاولة اغتيال، وكانت محاولة غادرة بتخطيط من صدام حسين الذي كان يشغل منصب نائب رئيس العراق، ولكن الله سبحانه وتعالى حفظ حياة البارزاني ونجا من تلك المحاولة الدنيئة، وبعد أربعة أعوام  على الاتفاقية تخلى البعث عنها وتنصل من بنودها.
مع ذلك ظل الخالد مؤمنا بالتسامح والعفو عند المقدرة، وحريصا على صيانة وتعزيز الروابط بين ابناء العراق، وزرع قيم الخير ونشر ثقافة التسامح في العراق لأنه كان قائدا أصيلا ومناضلا يحمل مبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة والإصرار الذي توارثه عن عائلته الكريمة، والرمز الذي جسد العزيمة في مقارعة المضطهدين ومقاومة جميع انواع الاضطهاد والظلم.
كان الخالد قائدا الشعب الكوردستاني أجمع على حبه والسير على نهجه الوطني الذي يعتبر مصدرا للفكر القومي الذي ألهم كورد الأجزاء الأربعة لكوردستان، نهجه لم يحمل في طياته أي نزعة شوفينية، وكان متحالفا مع القوى العربية المتفهمة لعدالة القضية الكوردية، كما لم يلجأ الى أي وسيلة إرهابية تضر بالمواطنين الأبرياء. المتابع بشغف وهدوء لتفاصيل نهج البارزاني الخالد، وعندما يربط الماضي النضالي بالحاضر المزدهر، والمستقبل المشرق، بموضوعية وتحليل علمي دقيق،  يجد في كل مرحلة يجتازها الكوردستانيين وتجتازها الحركة التحررية الكوردستانية عموما، حضورا معنويا وفكريا للبارزاني الخالد وبصماته الواضحة ونتائج نضاله وانجازاته خلال أكثر من نصف قرن، ولأن نهج البارزاني سفر تأريخي ملهم، فيه ثوابت ومبادىء تتناسب مع روح العصر ومتطلبات مصالح الحركة التحررية الكوردستانية، يبقى ماثلا في حياة أجيال بكاملها وسيبقى الكوردستانيون بحاجة اليه في الحاضر والمستقبل كما كانوا بحاجة اليه في الماضي، لانه نهج كوردستاني يتميز بالفداء والتضحية، وبنهجه السليم استطاع الخالد بامتياز خلق وحدة وطنية صلبة بين كل أطياف ومكونات ومذاهب الشعب الكوردستاني والأنطلاق من تلك الأرضية لقيادة نضال بطولي وكفاح طويل من أجل حرية الشعب الكوردي وقضيته العادلة في مناخ دولي بالغ التعقيد، وهو من اطلق على كركوك عبارة (قلب كوردستان)، التي باتت من المفردات المقدسة لدى كل أبناء الشعب الكوردستاني ومن المحرمات التي لا يجوز ولا يحق لكائن من كان التفريط فيها أو المساومة عليها...
حياة هذا القائد العظيم و سيرته حافلة بالبطولات والتضحيات والمنعطفات والتي هي إستثنائية بالمطلق قياسا بسيرة العشرات من قادة الحركات التحررية في العالم،  وقد تكون بارزان وثوراتها المتتالية في 1931و1932و1943وو1944و1945 ومهاباد وجمهوريتها الفتية، ونهر اراس الذي تم عبوره بعد قتال مع جيوش ثلاث دول هي ايران والعراق وتركيا في جبال كوردستان، وسنوات المنافي الطويلة وثورة ايلول العظيمة، أبلغ واصدق انباءا من الجميع ومن كتب التاريخ، بالتوضيح والبيان.
أدار البارزاني الخالد المعارك البطولية والجولات التفاوضية مع الحكومات المتعاقبة في بغداد بحكمته وصبره الذي أذهل العدو قبل الصديق، وكان صاحب نهج ثوري فريد من نوعه في منطقة تعصف بها الكوارث والمحن، وكان بإدراكه الواسع وتقييماته الواقعية للأحداث والمستجدات وتفهمه العميق للعراقيل والمعوقات، وطريقة تجاوزها بذكائه الفطري وحكمته ومثابرته، يستطيع تجاوز المحن.
لقد جمع البارزاني الخالد صفات رفيعة وارادة سامية، وريادة شجاعة، عاش بين الفقراء والمحاربين أملا في الحرية و من خلال سلوكه السوي، وخلقه الرفيع، أدرك أبناء كوردستان معنى فلسفة الديمقراطية والفدرالية والتآخي والتعايش والتسامح، وتمتع بقوة العزيمة والثقة العالية بالمستقبل وبالنفس الطويل لمواصلة الخطى للتخلص من آلام الجوع والبؤس والتخلف المتعمد، كما تميز الخالد بالحيوية وفهم الجماهير التي يقودها، وبممارسة سياسة مرنة مع المقاتلين، لذلك اعتبر أبا روحيا لعموم الكورد ولشعب كوردستان..
وأخيرا نقول إن كل الذين قابلوا البارزاني الخالد وصفوه بأوصاف الشخصيات العظيمة كعزيز النفس وشديد التواضع والمتسامح الذي يتمتع بشخصية جذابة يحترمها الجميع، ويحب الضيوف ويكرمهم انسجاما مع التقاليد العشائرية للكورد، والقائد الذي يفكر دائما بقضية شعبه من منطلق الحكمة والصبر والثقة بالنفس، الرافض لسياسة العنف والتطرف وأي عمل ارهابي، والقائد السياسي الذي لا يقبل اي تصرف يدل على الغدر مثل تلفيق تهم الخيانة والاغتيالات السياسية..