إننا لا نستغرب من عقلية لا تحترم الأعراف الجماعية، ولا تعترف بالأذواق العامة، ولا تؤمن بالقيم الإنسانية، أن تقوم بسرقة الكتب العتيقة، وهدم آثار الحضارات القديمة، لأن ذلك لم يكن حوشيا في فكر تأسس على الغرابة، وانبنى على البشاعة. كلا، بل ما تقوم به الدواعش من فساد مقيت، وتلويث مميت، لن يكون إلا بداية لتمدد عهد قادم من أدغال مجهول نفوس اختنق ذوقها بزؤام الوحشية، والهمجية، ومقدمة لتفجر قرن جديد بين مخالب الرعب الذي يسود سواده جماليات أوطاننا العربية، والإسلامية. فلم النكير على فعلة داعش، وهي تعاني من عقدة الانفصام بين ماضيها، وحاضرها.؟ إننا لا نستنكر ما رأيناه من إصرار زناد مفتول على كره لا يطيق بين جذور مأساته المنسية إلا أن يهدم، وينسف، ويدمر، ويفجر كل شيء لا يوحي إليه بما هو مخزون في ذهنه من صور رديئة، وقميئة، تطاول عليها العهد حتى صارت نارا تحرق في جحيمها كل من لا يستطيع أن يتجاوز منطق الصراع، ومجرع النزاع. أجل، إننا لا ننتظر نهاية لهذه البداية التي تعظم مشاهد الجمود، وتقدس موارد الفوضى، وتفخم مواقد العنف. بل هي توطئة تمهد لإجرام تشرف عليه أجهزة عتيدة في صنع التناقض في مورد التوحد، والاختلاف في محل الإجماع. فسواء في ذلك إدانتها لما تقوم به داعش من سفح للدماء، وهدم للديار، أو سكوتها عن تلك المجازر التي تئد الإنسان باسم الحرية، والكرامة. ذلك الإنسان الذي لا يطيق أن يخرج من شرنقة الكلمات المعسولة، والمسمومة، وهي يستمتع إليها ليل نهار بلا أمل، ولا أمان. بل صارت تحتمل توارد الضدين في المعنى الواحد، وتماثل الأضداد في تنوع المعاني. بل تجاوزت الأضداد، لكي تتعدد المعاني في المعنى الواحد، وتختل المفاهيم حول المراد باللغة، والمراد منا. شيء تافه قد لا يعرفه ذلك القادم من وراء جبة الأعشى، والأخطل، ولكن يعرفه ذلك التي تفتقت عنه أصداف الحضارة الغربية، وهو يزمجر بالعويل أمام الجماهير الخامدة، والسامدة، وكأنه يقول لنا: تلك لغتكم القديمة، فلا تعاتبونا بمفاهيمها الغائرة. أجل، لم نشهد البناء في القديم، وقد فرضت علينا معانيه المغتصبة، ولن نشهد مستقبله الذي ينشأ هناك بين مخاضن التهجين، والتدجين. نشأة لا ندري هل ستترك لنا موقفا نوجه به سعير الحياة اللافح لجيلنا المخضرم المشاعر، والمزامير.؟ أو ربما ستقتل فيه إحساس الإباء، والشموخ، لكي نصير في صغارنا، أو في هواننا، بدون هوية، ولا روية. هذه المعادلة الثانية هي الأصح، لأننا ولو أردنا أن نرفض، فليس لنا ملجأ آمن نؤوب إليه في تمردنا، أو في تجبرنا، بل لن نجد أنفسنا إلا شتاتا بين شظايا تنافرت في واقعنا المطلول الدماء الفاترة، والغائرة، وتجاوزت آمالنا بمسافات طويلة، ومراحل عديدة. فكيف سنرفض شيخوختنا في عالم مجازي، وقد انبثق من وراء العرين شبح مخيف، يرفض ثقافتنا التي أنبتتنا بين الحياض المترعة بالغيلان الفاتكة، ويهددنا بالإبادة إن لم نرض بتخلفنا، وتقهقرنا.؟ لو رفضنا ما فينا من هواجس الإنسان المخدوع، والمخذول، لكنا ضحايا لمؤامرة دنيئة، وخسيسة، لا يتوارى من ورائها ذلك الرجل الأنيق المخبر، والمظهر، ونحن قد نقشنا له في أذهاننا صورة جميلة، ومهيبة، بل يقف وراء ظل ألفاظها غول يحوم حول أرواحنا بأرقامه المضمخة بدماء المحرومين والمنكوبين في هذا العالم الميت الضمير، والوجدان. كل ذلك لا يمكن لنا رفضه،ولا نبذه، ولو قال قائل بأننا نؤسس لنظرية اليأس الفاتكة. لا، لا نؤمن بعقيدة اليأس، وهي التي أنتجت من قنوطها حصن الموت المنيع، ولم تنتج من أملها فسحة الحياة بين المدى المريع. غريب أننا نروج في أوطاننا لكتب تنطق بالنهاية، وتهدم البداية. وكل نهاية موت مؤجل، أو معجل. فما الذي سينتهي من ابتكار نياتنا الخامدة.؟ لو غرسنا في تراب عقولنا بذرة النهاية، فأي أمل سيهدئ من روعة قلوبنا المعذبة بمدلهمات الخطوب.؟ أجل سننتهي إذا عجزنا عن تفسير كثير من الكوارث التي تدهم وطننا العربي، والإسلامي، وتقتحم علينا بطيش سفهائها عمق بيوتنا، وقرانا، وتدهس بعهر عاهرتها حواس أذواقنا، وأرزاقنا. وإذ ذاك، لن تكون هذه العجائب النازفة في أعماقنا إلا خارقة لحياتنا، تحيي بين رمتها هوس النهاية التي لا تنتظر إلا التسلية بسكرتها الوئيدة. أجل، سننتهي، وذلك محتم علينا أزلا، سواء كان ذلك بكسبنا، أو كنا نتيجة لجريرة غيرنا، لكن مأساتنا التي نشمها في بيئتنا العقلية، والفكرية، أننا ندخل بين ألواح قواميس أحلامنا ألفاظا لا تعني ذلك المعنى المجعول لها وضعا، بل هي ترجمة رديئة لأحاسيس إنسان افتراضي يمتلك ذاكرة، ولا يمتلك عقلا. فأي معنى للفظ الأمل، إذا كان في أعراف اليوم وصية تقادم عليها العهد المضني بلواعجه، وعلله.؟ وأي أمل في لفظ الحياة، إذا كان الكشف عن علاج أورامها بين أنظار العالم المسود متعذرا، ومستعصيا.؟ فالموت أمر طبعي مجبول عليه طبع الأشياء المنتهية بانتهاء دورها في الوجود، وهو حقيقة تخطف من بيننا أناسا يعز علينا فراقهم، ووداعهم، وتنشل من أعماقنا كره من نعاديهم، وننابذهم. بل هو الجديد الذي يبتكر في جوننا حزنا على فوات أولئك الذين أضعناهم بين دياجير الظلام، ودهاليز الفتن، وقد قضوا نحبهم، ومروا من هنا خفافا، وسراعا، لا منقذ لهم من نزاع الحضارات حول يقينيات تنبثق من عمق الأديان، والفلسفات، والأفكار، ولا مأوى لهم إلا بطن الأرض المرفهة برفات البشر المقتورين، والمغدورين. فما ذنب هؤلاء الذين هدمت بيوتهم بالطائرات والدبابات التي لا ترحم صغيرا، ولا كبيرا، بل لا تميز بين الظالم، والمظلوم، ولا بين البطين، والنحيف.؟ لقد ماتوا، وانتهى رجاءنا فيهم، ولم يخلفوا من ورائهم إلا ذكريات تسوقنا نحو العناء، والشقاء. لم يكن غريبا علينا أن نعيش الصراع بين يقينين يحددهما شخصان متناقضان في الكتاب، والخاتم، و"النظارة"، والساعة، والسيارة، والهاتف، و"الحاسوب". وقد تجرعنا مرارة ذلك مع غصة التتار، والمغول، والحروب الصليبية، والاستعمار. بل الغرابة أن سفيتنا قد أغرقها اليأس الفاتك، وفقدان الثقة في مظاهر الأداة، والآلة، وانهزام الضمير المتنور بين رغبات الساسة، ونزوات رجال الدين، وموت الأخلاق بين الأجيال المتعاركة على "أسطوانة" سجلت فيها متع الحياة الناعمة، والرخيصة. أوليس هذا موتا بطيئا قبل الأوان.؟ أجل، هو موت الرحل بين مدن شاهقة تمتلك جسامة الجسد الفارع، ولا تحكمها وداعة الروح الورع. أجل، هو موت بين شفافية المرآة، وهزالة المرقاة. وكل موت، هو رحلة وجودية بين عالمين: عالم صنعناه، وعالم صنعته الأقدار لنا من غير استشارة، ولا استثارة. فنحن نعيش بين صفحتين، لا نقرأ من إحداهن ما فيه حياتنا الجماعية، حتى تهب علينا رياح نفقد معها الأمل في وجود الفرد المتأمل، المتبصر، ثم نصير إلى مأتم يزرع فينا شجنه شجرة الحيرة، والارتباك، والشك. تلك هي أحوالنا التي نخوض عبابها بأعين رمداء، ونحن نتألم لفقداننا لحاسة الشم في واقعنا العربي، والإسلامي. بل هذه هي أحاديثنا التي اغتصت بمرارتها لحظات سهوم مجالسنا، وأسواقنا، ومقاهينا، ومراكبنا، بل هي تلك الصورة التي تنقشها وسائل إعلامنا، وتواصلنا، وشبكات علومنا، ومعارفنا. فأي أمل سنرسو على مرساه بين الحدود التي ضاع منها الزمان، والمكان، لعلنا نخفف عنا من عبء المؤامرة التي تطال أمة تذوب على وجهها مسحة الهوية الفردية، والجماعية.؟ إننا نحتار في اختيارنا الذي غدا بلا شريعة نستن بها سبل السلم، والسلام، وآب فيه الشخص الذي يمتلك ضميرا نقيا هو الصقر الجارح الذي يغتال العصافير، والحمام، وعاد فيه ذلك المخلص المتبجح بحقوق الإنسان، هو الهادم لمدينة العلم بقنابله الملعونة، والمسمومة. بل اختيارنا يقربنا إلى إدراك هشاشة ما تهرف به "جوقة" اللغط من لغو ينزف على كرسي التوجيه في عقولنا، وقلوبنا، ويكاد من شدة لؤمه يمنحنا صورة أخرى، وصيغة أخرى، تجعلنا لا نثق باللغة، ولا بالفكر. بل تلك اللغة التي سدت فراغ وحدتنا، وغربتنا، هي التي حاربت لغتنا التي أكسبتنا عائلة تميس بصورة اللفظ، والمعنى. وسواء كانت تلك الكلمة لغة مقدسة عندنا في خدور الأمهات، والجدات، أو كانت لغة نفصح بها عن حياة نعيش كبوتها، وصبوتها. فلم تداخلت حدود المعرفات عندنا في ألفاظ فقدت الأبعاد بين أرقام نزدرها بشراهة.؟ ولم هزلت تلك الحواجز النفسية والاجتماعية التي نقيمها بين الأشياء المتجانسة مع معانيها في إدراكنا الفطري للغة، والمعنى.؟ فالأضداد، والمترادفات، لم تكن كما كانت متباينة، ومتعاندة، بل غدا الضد هو الصديق، والرفيق. فأنى للغة فقدت معجمها أن تصنع قوة المفاهيم التي نحيى بها بين الآمال اللطيفة، والوديعة.؟ فاللغة التي فقدت معانيها الحقيقة، تغدو مع الشتات كائنا ميتا لا حراك له بين الحيوات التي نعيش هوسها بلا رغبة حانية. وإذا اغتيلت اللغة السماعية بخنجر اللغة الصناعية، ماتت المفاهيم التي تركبت في أذهاننا المتقدة بشرارة مقاومة الذلة، والحاجة. وإذا ماتت المفاهيم التي ورثها جيلنا عن جيل سابق، استحال الغالب "أستاذا" يعلم المغلوب بين حجرات خداعه كيف يفهم لغة الأشياء التي تنطق بها أرواحها المرفرفة حول قبة السلام. وتلك سبتنا حين فقدنا معجمنا، وقاموسنا، وانتقلنا إلى روضة أطفال نتعلم فيها معاني مفككة لألفاظ العمل، والانتاج، والاستهلاك. بل ذلك الجنون الذي أصاب معايير اللغة الموروث وجدانها من تاريخنا، وحضارتنا، لم يقتصر على ما هو خارج عن ذواتنا المتوائمة مع "جيناتها" المتوراثة، بل تجاوزه إلى ما هو مرتبط بسمات ذواتنا، وصفات عقولنا، ولذات قلوبنا، فغدا لفظ الدين تحتمل دينا آخر، لا يهمس بمعاني الرحمة، والشفقة، بل تطور ذلك في "بويضة" أنتجها سفاح مستمن بالعاهرة المفترضة، لكي تولد بين رحبة الكون معان "مستنسخة" للصحة، والطب، والمشفى، بل طال ذلك السرطان المتسلل إلى أجهزة المناعة معنى المواطن، والمواطنة، والوطن، بل استشرى ذلك الهزال العقيم إلى لفظ العنف، والزهد، والعفة. ألفاظ كان لها معنى في معجمنا التاريخي، والحضاري، ثم غزتها مخدرات مفاهيم الغرب الجامح في غريزته، وعقيدته، فأفرغت من فحواها، وجدواها، وصارت تحتمل معاني لمعول يهدم في الإنسان إنسانيته، وآدميته، لكي يكون كائنا مفوضا، ومسلما، لا ينتج الحقائق التي تكبح سعير شهوة المستثمر في عرض الإنسان، وشرفه، بل صارت حقيقة السوق هي التي تنتج هذا الكائن العاجز عن صناعة أفكاره، وآدابه، وفلسفته، وموسيقاه، ومسرحه، وسينمائه. بل تعطلت الجوارج عن العمل المثمر لقوة الإنسان، وانقضى عهد الإيجاب، لكي تكون دلالة النفي على الصفة الملازمة للجهد البشري. وهنا غدا الإنسان أثرا، لا عينا. تلك هي الحقيقة التي نخوض غمارها بين المساحات الفاصلة بين السياسة، والاقتصاد، وبين الاقتصاد، والثقافة، وبين الثقافة، والأخلاق، وتلك هي الكونية التي نتيه في خضمها حيارى بين صراع ديني، وثقافي، وحضاري، فلا ندري كيف نفرز في هذا التهجين بين اختلافات الخيال، والحقيقة، وتلك هي الطبيعة التي نضيع بين عبابها الملوث بأدوات صاخبة الكلمات، والأصوات، والخدمات. فلم الألم، ونحن أمة تحكمها الأزرار التي لم تصنع ملامحها الغامضة، وتدبرها المفاتيح التي لا تجيد لمس نعومة شاشاتها المزركشة.؟ سنتألم لخشونة ما يصنعنا ببشاعة، ويدبرنا بشراسة، ولكن، ولو اعترفنا بالسلبية في محل الانجذاب، فإننا لم نمت، ولن نموت. ففي أعماقنا بقية حياة فقيرة، تنتعش بين أطلالها عصافير تزقزق بالعدالة الاجتماعية، وفي أذواقنا أمل يحلق بنا نحو ذلك المثال الذي يقطر برذاذ الاستقرار، والأمان، وفي أقولنا موقف نجاري به من رأى ما فينا من طاقة بلا مادة، ولا معنى. تلك هي حقيقتنا التي لن تموت، ولو لم يقبل ذلك العالم المتغول بين أعيننا وفادتنا، وضيافتنا. أجل، في أعماقنا، وأذواقنا، وأقوالنا قرب، لا بعد، ولو تباعدت المسافات، وتناءت المساحات. وهذا أمل نمتلكه بحجة التاريخ، والحضارة، ولو أعول علينا مدع يدعي نهايتنا في سؤر معاناتنا، ومأساتنا، أو جار علينا غريب بلاعج سفيه يبتغي أن يدسنا بين ضرام نيران احتقارنا، وإذلالنا. أجل، هذا ما نمتلكه لونا، ورائحة، وهو لحظة جميلة يشعر بها كل من تعرف على سنن الطبيعة، ودرج الحقيقة. فهل ننتظر بقاء السواد على أعيننا مدى الدهر المسرف في قتل كرامتنا، ووأد طهارتنا.؟ لا، لكنني حين أعود إلى عهد فطرة البساطة، والسماحة، أجدني ممتقع اللون، وممتعض الباطن، فأقول: ما الذي دفعنا إلى أن نستشعر الموت بين الدروب، وأن لا نبحث عن الحياة بين الكروب.؟ فأقول: تلك مغامرة عسرة، ولا يقدم عليها إلا من أحس بالمواجهة الخطرة. قد نغامر، ونقامر، ولكننا لا نمتلك قواعد اللعبة على رقعة هذا الكون المتسلي بنظارته الشمسية على شاطئ الغواني المترنحات بتصفيق السكارى، والمعربدين. قد نواجه، ونشاكس، ولكننا لا نمتلك السلاح الأقوى في ميدان الصراع الذي يستهلك بريق الخداع من أجل الاحتفاظ على علاقته المادية بالطبيعة. فالعالم مهما زينا صورته بالألوان الرقيقة، وظللنا وجهه بالمساحيق الوضيئة، لم يكن في يومنا هذا إلا رقعة شطرنج، تتعارك حولها أجناس تبحث عن الخلود، وتتحرك من أجل البقاء. فلا انتصار في هذا المكان المعزول إلا للأذكى. الذكاء نار تحرق بعد الآخر بين أمدائه، ولو بقي طويل العمر لاغبا بين متاهة الحياة البديلة. فلذا، لا بد أن نستشعر بأن الغرب قد انتصر حين كان ذكيا، وحين فقد ذكاء فلاسفة أنواره، سرق اللعبة، وقتل الملاعب على الأمل، ثم ادعى أنه الأولى بالقدرة، والقدوة. فانتصاره ليس لغباء فينا، بل كان انهزامنا ذهولا أفقدنا ذواتنا قوانين العقل، وقواعد المنطق، وحقائق الفلسفة. وحين صادفنا بقية عقولنا بين إحدى برك الصراع، ألفينا ذواتنا المترنحة بنشوة اللذة المزيفة في سجن سحيق، وعميق. وأي سجن أقهر لعقل الإنسان من فكر هزيل ينشر مرض النهاية بين صريح البدايات، ويطوي من عمق الإنسان قيمة الحياة التي نتداولها أخذا، وعطاء. في لحظة من لحظات الغفلة التي تبنا منها بيقين الإدراك المستند إلى قراءة تاريخ الأفكار السالبة، والإيجابية، كنا نستجلب عواطف المستمعين إلى وعظنا بما نزفر به من أخبار النهاية للكون، والوجود البشري. أخبار الفتن، والملاحم. أخبار انتشار الزنا، والربا. أخبار ضياع الأمانة، وقلة البركة. أخبار موت العلم، وخروج يأجوج، ومأجوج. أجل، إننا بهذه النظرة السوداء إلى بينونة المستقبل عنا، كنا نستميل عقول العامة رغبة في الخشوع، والخضوع، وطال الأمد بين الهزائم التي بني عليها تاريخ الصراع في العقلية العربية، والإسلامية، ثم صار هذا الخطاب مؤثرا في غيبوبة الإنسان الذي ضغطت عليه ملمات الحياة الغامضة بهمجية التقنية الحديثة، ولم يجد له في حضوره المشلول نصيرا، ولا شفيعا، إلا الاستماع إلى لغة النوح، والبكاء. بل غدا هذا الخطاب المترع بهواجس الفناء ترفا تعشقه حياة الأغنياء المثخنة بجراح الحضارة الكاسرة، وهم في حضن ولادتهم الجديدة، يخففون عنهم من عناء الواقع ببساطة تلك المراثي التي يسمعونها من أفواه تجيد صوغ المعنى بين تحويم عبارات براقة، ولماعة. عجيب أن يكون هذا الخطاب سلما يرتقيه كل من أراد الاستحواذ على عقول الفقراء المترنحين بالآمال الغائبة، الحاضرة، لكي يظهر عدالة قضية الإسلام، ومظلومية المسلمين بين العدى الكائدين لها بالشرور العريضة. لكن هذه النصوص المليئة بتأويلات النفوس المنكوبة، قد عدلت قيمها في فترة معينة بنوع آخر يكتسي لونا براقا من الخطاب الوعظي المنتشر بين أهوية الفضائيات، لكي يكون مقبولا في عقول الطبقة الوسطى من الأغنياء المترخصين في لذات المباحات الجائزة. بل الأغرب أن ذلك قد تطاول في امتداده إلى نفوس الطبقة الطاغية بغناها الفاحش، ثم استحال ذلك مع ميوعة الأحكام إلى "موضة" جديدة تسيل لعاب الوعاظ المحتشدين حول الموائد المفعمة بأطايب الصفات، واللذات. وهنا، لم تكن الأفكار هي المقصودة بذاتها، بل المقصود منها هو ما تحدثه من لواعج حزينة في نفوس تحس بخسة الضمير المتكالب على صور الحياة الماجنة. ولا أخال أحدا أحوج إلى خفة ضراوة وخز السؤال من هؤلاء الأغنياء الذين كدسوا أموالهم بين أكياس الحرام المحترس بجنود النهب، والسرقة، وهم في صورتهم السالبة أخلاقيا، يعيشون الانفصام بين ذواتهم المستعرة أوراها بتأنيب الباطن الممزوج برفض الذنب، والخطيئة، وإن كان ذلك مما يفرضه نمط الحياة التي يعيشونها بين طبقات تختلف فيها الحدود بين الالتزام، والانحراف. أناس يشعرون بألم الوجود المتعلق بالأعراض الزائلة فتنتها بين مخالب المرض الشرير في طبعه الجارح، ويضمرون تمزقا في أعماق نفوسهم المعرورة ببرودة العواطف الإنسانية، ونبوة الأشجان الجماعية، وهم في جلية أمرهم الملتوي بين خفاء النيات المكتومة، لا يخففون من شقائهم إلا بالبكاء الذي يزعزع في ذواتهم بذرة الكمد، والوكد، وينتشل من لذاتهم فسيلة العناء، والشقاء، وأحيانا يقتفون أثر الخير في أرواحهم ببناء المساجد الشامخة المنارات، والعلامات، وأحيانا يفصلون بين حرد الذات، ووعي القلب، بقصد نسك الاعتمار في رمضان، وأحيانا ينتزعون من قبور المادة ببلل الظهور بمظهر الرعاية الاجتماعية. أشياء جميلة في ظاهرها، وهزيلة في باطنها. وهنا لا نضيق ذرعا بما يلف عالم هؤلاء من تناقض، وتعارض، بل لا نحكم على جذور الخير الموجودة في تابوت الوعي بمكونات ذواتهم، وعواطفهم، ومشاعرهم. بل لا نعمم الحكم على المظاهر المختلفة باختلاف الوعي الإنساني. لأننا لو قلنا بذلك، لابتعدنا كثيرا عن تضارب جيوش الخير والشر في عالم الآدميين. لكن حين نقول: هناك نفوس هزيلة من وراء هذه المظاهر الزاهدة، فإننا نعني طينة لا تستشعر قوتها إلا إذا أغرقت رجل الدين بالمالى الوفير، لكي يكون خطابه متناسبا مع ما يحتاج إليه أولئك المعذبون من زفير. شيء نراه أقرب إلى دسيسة الإثارة والتهريج من الاتصاف بحقيقة العلم، والمعرفة. فمتى ستستقيم أفكار هذه الأمة في عمقها، وسعتها، وفساحتها، وامتلائها، واحتوائها، وهي تترنح من برجات ترددها أصداء البكاء، والحزن، والألم.؟ في زمن من أزمنة حرفي، كتبت مقالين عن ظاهرة عمرو خالد، وخالد الجندي، وقد قدر لهذين المقالين أن تلمس فورتهما شرائح مختلفة، وأن تقرأ تموجهما فئات عريضة. ولكن في الوقت نفسه، سلقتني ألسنة حداد بتهمة العلمانية، والليبرالية، وأحيانا بالإلحاد، والزندقة، وفي لجة ذلك الاختلاط بين قارئ صامت، وقارئ عاذل، أيدتني فئة من المتنورين في وطننا العربي، والإسلامي. وقد كان في زمرتهم مفكرون، ومثقفون، وسياسيون، -وأتذكر هنا ر يئس حزب سياسي بسوريا المنكوبة- بل الأغرب أن بعضا من أصدقائي الذين قضيت معهم رحلة التيه بين الحركات الإسلامية، قد طالبوني بأن أخفف عني من حرارة حُمى المقالين بمقال آخر، أغير به ما يزفر بين صدري من وجهة نظر قاسية في الوعظ الديني الجديد. لكن ذلك لم يكن مستساغا عندي في لحظة تسودها رومانسية الكلمة السواحة بين وهاد المعاني. فحسبي أنني ذهبت مذهبا فيما يشربه وجدان واقعي من نبيذ ساخن اللذات، ورأيت رأيا فيما يكمن بين غبش الرؤى من زلل الهنات. ثم قلت: إن هؤلاء الوعاظ الجدد، يبللون ثوب الأمة بخطاب أجوف يسطح عمق عقل الأمة بما ينشره من رغبة، ومتعة. ربما قد تتنافى مع قدسية الكلمة التي نريدها أن تكون صوى على مواقع المواقف العقلية، لا إطراء لموارد العاطفة الجانحة. والأغرب أنه قد حصل ما حصل من نحيب بين تضاريس الفضيلة الدينية، ثم انكشف اللثام عن طبيعة المطالب المرجوة، وانقشع الغبار عن حدوس أولئك الوعاظ الذين اغتنوا وراء الوعظ بجنان دنيا تقالوها عند الإحساس بقيمتها الخصيبة، -وإن كانوا عند الظهيرة يذمونها بصهيل الزاهد اللسان، والجشع القلب- ثم اكتسبوا من عرق الإجهاد في التمثيل مواقع التشريف، ومراكز التصريف. بل الأغرب من هذا كله، أننا وصلنا بقوادم وخوافي عشقنا للامتلاء إلى حضيض الميوعة، وبضيض السيولة. وهنا فقدت الكلمة معناها الذي كان في ناره ثلجا باردا، وغدت أنفاس المواعظ مبهمة في صيغتها الحزينة، والأليمة. فلم استحال وعظنا إلى مراثي تقرأ "طواطمها" لاستمالة عواطف الغيوم الملولة في رحم الجوانح الحائرة بين نبض الدم، ووهج اللوم، لا شرارة تصدع من قعر الناي المنادي بصوت تنبجس منه ألحان تلتحم بين حواف الزمن لاستنهاض الهمم، واستبصار الأمام.؟ كل ذلك قد حدث حين صار وعظنا مطية تطوي مساحة النوى المفارق بين بؤس المداشر، ورغد المدائن. بل صار دمعة مالحة تتحاشي زهومة أولئك الأراذل المتسخة أسمالهم بدرن الفقر الحامض ذوقه، وعرقه، والمتشحة أرزاقهم برداء الخطيئة المتبتلة بالقدسية المنبوذة، والمكروهة. أجل، لست ممن يرى جدوى الوعظ لا تتحقق إلا في زغب العاجز عن عب ما بين شلال الترف من ظَلَم خليلة موصولة. لا، ولست ممن يدعون إلى عناق فروة الدروشة، والرهبنة. لكنني موقن بأن دسم هؤلاء الأغنياء المتورمين بهالة العبودية لفحولة الكاهن الغاوي بحلل الخيلاء، لن يكون له أثر على مصير الأمة الغربية بين وبال الأوجاع المدنفة، ولا على مسير الإنسان بين طوام الأشباح المخيفة. فالمال الذي اكتنزه ذعر الأغنياء من غوائل الغد، لم يكن جرعة من نبع نظيف، فأنى له أن يكون شهد عسل في قدر الفقراء.؟ بل نقول بالعبارة الصريحة: كيف يمكن لعرق المحرومين أن يكون فضيلة في دماء الأغنياء.؟ أجل، لن يكون نقاء في الحقيقة، ولا صفاء في الطبيعة. بل هو مظنة لبيع الوعود، وخفر العهود. ولا شيء أدل على ذلك من سقوط هيبة الوعظ أمام هامة الغنى. ولذا، اكتنز الثروةَ أولئك الفقراء الذين حملتهم معرة الحاجة من دياجير البؤس إلى رهافة المجالس الملثمة بجماجم المنكوبين. فلا غرابة إذا وجدنا أولئك الغرباء، أو أولئك الفقراء، لا تمر عليهم سنوات بين حافة الزمن المكلل باليأس الوارف، إلا واستحالوا سادة تطيعهم مفاتيح المزارع، والمصانع. بل لم لا نقول: لقد قتل الواعظ نفسه حين غدا مليئا بالرغبة في رفاهية الدور، والكور. بل لم لا نقول: لقد فقد الواعظ ذاته بين المنحدرات الممرعة بالكروم الملتفة على عصير الشهوة الخارقة. أجل، قد طوي المدى لطائر الواعظ المحلق حول شذى الزهور المقدسة، وآب من سفره مزودا بخيبة القربان الذي يواسي به عار المأساة الإنسانية. فبأي جهد نال هؤلاء ذروة الغنى الهائلة بسرعة البرق.؟ هل استثمر هؤلاء تلك الجبايات التي عملوا على جمعها في حماية العقل الإنساني من الأحدوثة الكاذبة، والأسطورة الغامضة.؟ شيء يتمحض في تفسير عقلي، وأنا لا أحبذ تبجيل هذا الوعظ المغتصب لأحلام الفقراء الشاحبة، لكي يكون الترف عنوانا على الوجود المخذول بين العيون الغائرة. كلا، قد انتهت تلك الصولة بين الشعوب المستضعفة، وضاعت الكلمة بين الزهور المستوحشة، وفقدت الهيبة بين الدروب المستوخمة، وغدا الوعظ لعبة على الألسن الزائفة، بل صار لعنة على ذمم الغربان المنتحبة على أغصان الزيتون الذابلة. فأين بقية أحلام أولئك الذين بلبلوا فكر المحرومين بسعار حماية الفضيلة.؟ وأين جلية أقوال أولئك خلخلوا مفاهيم المغبونين بجؤار رعاية الحرية.؟ وأين طوية أذواق أولئك الذين ألبسوا فاسد الخيالات قمصان الحقيقة.؟ لقد انتهت مصائرهم إلى غيابة جب المأساة الحزينة، وانتفت عنهم روائح صفاتهم التي تزينوا بها بين المجامع الرديئة. أجل، قد عادوا الأدراج خاسئين، خائبين. فلا أمل يرجى من عيبة صمتهم، ولا وصل يبغى من دليل صوتهم. لقد زال لمع البرق الخلب بين الأسرار المهجورة، ثم تلألأت الدروب المنكوبة بالنكير، والنفير. فإما إنكار يدبرنا بعدما فقدنا نقاء الرفيق في وحدة الليل الطويل، وإما نفير يزف إلى القلوب المفجوعة عروس الخلاص بين عتمة المصير، والمسير. فماذا استفادته الأمة من تفاهة الأحلام البيضاء، وحقارة الأوراق الحمراء.؟ لقد استفدنا دفء لحظة استحالت حرارة مفرطة بين حمى الرغبات الدنيئة. أجل، لقد جنوا أرانب السعادة الكئيبة بين خواء العقول الكاسدة، وجنينا منهم الآلام المزمجرة في أعماقنا بأصداء عواء الثعالب الماكرة. تلك هي مواقفي التي أصرخ بها بين صداع الكلمات الصامتة، وأنا أرى هؤلاء الوعاظ يتبصبصون بأذنابهم على موائد أعراس الخيانة الفاجرة، ويترنحون بأجرامهم بين سهوم خشخشة الأجساد اليابسة. والأغرب أنهم قد تنكروا لعباءة الفقراء الذين تجرعوا حيرة سمومهم، وعرفوا نكرة أسمائهم، ولمعوا ألوان صورهم، وزينوا مرآة طريقهم. فيا للحسرة، لم يكن الوعظ في نظر الأفذاذكلمة مثيرة، بل كان كلمة تنثر في غور سهول القلوب للفصل، أوللوصل. كلمة جريئة تفصل بين عطر المفاهيم المتعددة، وتصل خجل الحاضر بحياء الماضي، وتبني أسس الطهارة بين لهيب النقاوة. شيء يحز في منبسط النفس، وأنا أرى قيم المجتمع تتبدل، وتتحول. فبالأمس القريب، كان المجتمع ينكر على زقاق الأغنياء اكتنازه لمصابيح عتمة الثروة من غوائل الدناءة، واليوم، صار خصي المروءة وجيها بين بساتين النبلاء، والفضلاء. بل فقد المجتمع مصفاة زيته، وغدا بدون مشكاة تضيء دروب التيه بين همس الحلال، ودوي الحرام. كلا، بل استوفد هؤلاء لصوصا لكي يزرعوا روح الحكمة بين ضريح الولاية، ويحرسوا الحديقة من طائف يدبر المحال على صخرة الفراغ. لكنهم خانوا الأمانة، فهانوا بين الأمة. فلم اللهاث وراء السراب يا من يزهدنا في الكعكة لكي يأكلها بجشع المتنسك، المُفرد.؟ لقد أضاف الوعاظ إلى أوصافهم فرح الغنى، وغدا النعت قفلا يغلق منافذ الصلاح في وجوه العميان. وهنا ضاعت إشارات المعنى، ودالت فواصل السر المكتوب بين منتزهات الحق، ومنتجعات الباطل. فلم نبكي نهاية عهد العنين الذي دبر مكيدة قتل الأبناء، واستحياء الخصيان.؟ تلك العلامة الفرعونية قد هدمت العواصم، لكي يسعد أهل الباطل بالأنظار الغاوية. فلم أضاع بريق السؤر بياض الكفن، وبكاء الحداد.؟ لو أحس المرفه بجبة المحروم بهوانه بين نظرات تطوح بأبالسة العدم، لعجل بركضه إلى قبور المعذبين بين الطين، والإسمنت، عساه أن يتوب من هواه المستهدي في الهاوية بقطف ثمار اللعنة. وهنا أقول للحقيقة، ولو ترفهت الكلمات بنخوة المرارة الحارقة: إن لم يفقد وطن المجتمع إلا امتلاء كأس التمييز بين خلوات أهل الحق، وجلوات أهل الباطل، فيكفيه ذلك خزيا لحقه من وعظ بارد العاطفة، يستمع إليه بشوق، فيغرس في غربة نظره السافر أسنان النفاق، وأنياب الشقاق. وحين تيبست في أعماقنا ظلال الحلال، صار كل شيء لا يحتمل إلا ساعة الذات الملتبسة بالأحكام المتناقضة، فإن رضيت النفوس بإرضاع حليب الخلود المغشوشة بسماته الغادرة، كانت الكلمة خادمة، لا مخدومة، وشاربة للدم، لا قاهرة لليأس، والحزن، والندم. وإن شحت أثداء الحدائق الذاهلة، كانت الكلمة حاكمة علينا بالتكفير، والتفسيق، والتشهير، والتبديع. تلك هي النتيجة التي جنيناها على مروج ليل غريب يلبس أسمال الطهر على قلب الذئب الهارب من فيح الصيف، ورذاذ الشتاء. وحين انتهت فصول المسرحية بين الطواحين التي تحكي مع الرياح زوال منازل الحقيقة. وهنا قتل البطل بما نسجه غله النابض باشتياق الأدوار، والأقدار. وهنا حومت شياطين الدقائق الراكضة على الرؤوس المغرورة بنجوى الشتات، والخراب، والقتلى. وهنا عزفت مواويل النهاية التي تكفكف دموع اليتامى، والأرامل، والمقعدين، والهاربين. شيء يختصر عمر الوعظ الذي ابتدأ بائعا للخضروات الطازجة، ثم انتهى إلى أخطبوط يخفي المنايا بين حوادث الصمت، والصخب، والضجر، والألم. أجل، سنبكي نهايتان: نهاية نسير فيها إلى حتفنا المنفجر من عمر الكون، ونهاية يسعى فيها الموت بين أوصالنا المضطربة، ونحن نبعثر أشجار الغابة بين ثياب الضباب الداكن، لكي نحقق غاية فاقد النهاية في البداية. شيء محزن أن نتحدث في لوعة الموت بإحساس الأمل المغازل لعاطفتنا الجانحة، وعن صدمة الحياة بشعور الألم المتنفس لصديد الذات الغامضة. أجل، هذا ما قد حدث في الماضي السائم بين أعشاب البر الخجول البسمة، وهذا ما نعاني اليوم من معرته، وسبته. فآه، آه، من الذي دفع بداعش إلى محرقة التاريخ المتقدة بأغاني الجوالين بين صحراء الموت المبقعة بالدماء المسفوحة.؟ من الذي أغرى العقول بالفناء تحت ظلال أعلام سوداء حالكة.؟ ربما قد لا نعرف من ذاك الذي رفعها لوأد أسرار الجسد اللاهب النظرات، ولا لمن رفعت له بين شرايين الأرض الملطخة بمكر المزدحمين على الدمى الصاخبة، ولا لم رفعت له رجاء لما في صدره من خطوات صامتة.؟ لو كان الصدق شفاها تنطق بوفاء أقوالنا، ولو كان الإخلاص حواسا تشهد بصفاء أذواقنا، لوجدنا تلك الثلة التي تنقض خصلات حضارتنا العربية، والإسلامية، لم تكن رائحة منهمرة إلا من أسمال حزن أبناء جلدتنا على يبس سلال الزهور بين جزع الأكابر، والأصاغر. أجل، هم من فيض صمت الأسفار البالية عن الحكاية الجميلة. بل هم سؤر لسان نطق بقدوم زمن الملحمة الساحرة. بل هم عواد زاروا في مهب المنى قبر الخرافة الساطعة. وحين التأم الدمع على ناصية التاريخ المخبوء بين حندس النسيان، حن أنين السلوان إلى صهيل الخيول المتلاحمة بين حوض الإباء المترع بذكريات الغرباء. بل، بين مرتع الغواني العاري عن تلعثم كمد الأشقياء. أجل، هم من طينة نشأت من فرارانا عن أوتار تفجرت بين عمق الديار المصفدة بالمآسي الذاهلة. كلا، بل هم من معدن صهرنا ذهوله عن غموض الخطوة الطليقة بين الدروب المضمر سرها حيال البلايا العنيفة. كلا، هم أبناء بائع اللَّبَن، وصانع اللبِن. شيء ورثوه منا، وشيء نرثه منهم. فلم نخفي الحقيقة، ونقول: إنهم أتونا من الربع الخالي.؟ لا، لم تنشق عنهم أرض الغيوب إلا في لون الكروب، ولم تظهرهم عنف البلايا إلا عند احتضار الدم في ربابة الراعي، وهو ينطق بصوت ملتبس بالجفاء، والأمان، وكأنه ينفجر من أعماق العماء المسكون بأرواح القتلى والموتى بوامعتصماه، وامعتصماه. شيء يفيقنا في الصباح المتهلل بأسارير الذين غسلت الشمس ملامحهم القديمة، فصاروا أبدالا، وأغواثا، وأقطابا. لا، هؤلاء جالسونا فترة كنا فيها صغارا بلا أقنعة مدورة، وحين تنمر رقيع بالنهاية المشوقة، غازلوا الشجرة بالأمنيات الحسيرة، فلم يروا على صفاء النهر إلا ظلالا غفت في القيلولة. تالله، لقد كانت البداية نظرة بريئة نحو السنبلة، وحين يبست بين ذراع قابض الريح الجافل بالتسبيح على ضفاف الغدر بالأمانة، استحالت غصة في حلوق المهيجين للعواطف بالخطب الرنانة، والمواعظ الطنانة. شيء يسطر في النفس سطرا مفخما بالفجيعة، وأنا أستمع إلى لفظ الدعوة مجلجلا حين ينزف به مغرد بين حفلات الاغتراب. فأي دعوة يمكن لنا أن نقيم عرسها بين حدود وشمت على نحر الكون بأنها كوكب مظروف لكائن يسمى بالمجتمع الإسلامي.؟ لو قلنا بالوعظ بين "هندسة" المعاني المحررة، لكان له معنى في صناعة الدهشة، ولو قلنا بالإرشاد بين "جغرافية" المباني المدونة، لكان له معنى في صفاء النظرة، لكن لفظ الدعوة يوحي بدلالته التاريخية والحضارية إلى معنى له مقصد ديني، ونفسي، واجتماعي. فالدعوة حين تبحث عن نفسها بين فوضى السلوك العقدي، لا تكون إلا للمخالف، لا للموافق. فالمخالف هو الآخر الجاثم بين غيوم الأنظار الكليلة، وهو محتاج في صحراء تيهانه إلى إكسير الدعوة الصادقة، لأنها امتثال لرابط روحي يربط بين بني الإنسان بحبل المطلق في سيرة النسب، والعلل، ولو اختلفت الأديان، والألوان، والأذواق. فالدعوة بهذا المفهوم المحدد بصفاء العقد الإنساني، ليست كلاما يمتص من عناقيد العناقيد اللماعة، بل هي الذات المتكلمة بكل تجسداتها في ملكوت الواقع المبعثر الاتجاهات. فكيف يكون داعية إلى سماحة الإسلام، من جعله برداء العراف حربا، لا سلما، ومن جعله بتمتمة الساحر قسوة، لا رحمة.؟ فلا عجب إذا رأينا رياح الدعوة في بلاد الإسلام تحدث الخراب، والدمار، وتقلب الوحدة تفريقا، وتمزيقا. بل لا غرابة إذا حكم هؤلاء بالشرك على ذوق الموحدين، وهم يرون ظمأ الأجساد الكادحة إلى ظلال نخلة العادات والتقاليد مروقا عن شجرة الملة، وخروجا عن قوافل الأمة. تلك هي الدعوة المتلفعة بمروط الكساد الروحي، والمتشحة بسديم النظرة العابرة إلى طرة الكون الإنساني. ربما قد كان لهذا اللفظ مفهوم مستحوذ على العقل في لحظة الخيبة التي جعلت المحال ممكنا، والغريب نسيبا. تلك هي لحظة الحرب الباردة بين ألوان قوس قزح المشعة بين "كرنفالات" الكون الذي يتلو قصائد الإغراء المعجزة. تلك هي الللحظة التي عاشت بين غرائز الغربة الوجودية المجللة بغيوم مظلمة. وهناك، كان العدو الأوحد هو الإلحاد المنسوب إلى الشيوعية المادية، ولو تناسينا من يقف وراء الراهب المصنوع من رماد التاريخ المنتوف من لحي المنكوبين، وكان الجهاد كلمة مجلجلة على المنابر المكسوة بعبث اللغة "الدرامية" وا"لسريالية" المتولدة بين أحشاء العالم الإسلامي. وحين انتفش الواقع عن تفكك قطع ثلوج جبال الاتحاد السوفياتي، وهدم جدار برلين الساطع بين الأفق البعيد، وتحلل "سمفونية" الجند المحتشدين على رفع أناشيد لواء المعسكر الشرقي، صار أولئك الذين جاهدوا في سبيل قضية الإسلام -كما صورت لهم طلاسم الساحر المترنح بين غبار الليالي القاتمة- مطلوبين لظُلمة السجون المنتشية بصراخ المعذبين. لكن أولئك الذين حرضوا على انتجاع عشب الجهاد المروي بعشق القديسين للبسالة في ميدان الوغى، استحالوا حملانا وديعة بين طعم موائد الانتصار المقرورة بين عيون الحنين، والأنين . فأي انتصار.؟ لم تنتصر قطرة الندى التي أطفئ عليها المصباح بين الليالي المجنونة. لم تنتصر أشعة الشمس المعرورة بخيبات السواحل المعتمة بفوضى الإنسان المنبوذ، المرفوض. لم تنتصر طيور "الكنارى" المسجونة بين المصاريع المكسورة في قصيدة المحرومين. لم تنتصر زهرة "أوركيد" في لعاب الفراشات التي حلقت بين السموات الشاهقة، وهي تنتظر العودة إلى عوسج الأماكن المضببة. وياليت هذه الفراشات انتصرت، وهي تفتح في كل ليلة سجينة نافذة للأمل. والأغرب أنها وجدت صوتها بين مهب الرياح العاتية. وحين اختطفت من الزهر لؤلوة الحياة بين الكون المغبون، صادفت سراويلها مهجورة بين خراب غادرته قوافل الأمان. لم تنتصر تلك الحكاية المبتسمة، بل انتصر ذلك القميص الرمادي المكور على القبور المنسية، وهو يلوم النتيجة التي بلغت إليها عامة المسلمين بلا ظلال المرافئ الآمنة. فلم نعتب النتيجة التي كانت فحما حارقا لرداء المغفل، البليد، ولا نلوم الفكرة التي كانت وقودا لشرارة تلقفتها الأفئدة من ألسن جبلت على استهجان الماضي المجلل بهالة السواد، والبعاد، واستدرار عطف الحاضر بين غلمة الضوء، ونكهة الطعام.؟ هنا بدأ خطاب الاعتدال والوسطية يستأثر بموقع مشدوه باسارير الحكاية المغتربة، ويستحوذ على منبر فقد سره الإلهي بين ضوضاء المكان الملول بلحظاته العابثة، لكي يصير بوقه صفيح جمر يحرق حور المعاني بين أيد تلاعبت بالعواطف الدنيئة، والأحاسيس السخيفة. والعجب أننا لم نعدم في كل لحظة مبحرين يجدفون بعقول المسلمين نحو مراسي سخرية الساسة الغربيين، وهم يتململون بامتشاق سيف الحقيقة الذي لا يغفل عن قطع دابر المفسدين. وتلك أزمتنا في أوطان صار فيها بائع الجبن داعية، وطباخ الولائم واعظا، وكاتب الأسطورة مرشدا، ومفلس اليد محاضرا. وحين أنجب الواقع العربي طفلا مطرزا بخصلات مسروقة، وصار أولئك الملهمين بحكمة الاعتدال بين صقور الاغتيال، هم أولئك الذين حرضوا الشباب على الذهاب إلى فرن محمية نيرانه بين شلالات سوريا العتيقة، وهم الذين كفروا أجواد أنظمة أترعت جيوبا خسيسة بوفير اللذة، والمتعة، وهم الذين أفسدوا عقول شباب تضمخوا بتناقض بائس اللحن، واللون. شيء مذل يدبر هؤلاء الصاغة الذين صنعوا لكل مرحلة وجها جديدا من الدين، ولكل حرب دروعا مكينة من الشريعة، ولكل فوضى سبيلا لاحبا من الفقه. والعجب أنه حين نشأت رصاصة داعش من قلب الصراع في سوريا، والعراق، تحول هؤلاء إلى منكرين لوحشية الدواعش بين الحقول الشاسعة، والوديان الغائرة. فأي أمل يسوم خسفه هذه الأمة الملتفة حول كرمة الأمل العاني، وقد اختلط لديها الحابل بالنابل بين ألوان المخاطب باسم خطاب الدين.؟ فالقرضاوي ومن لف عمامته بين لفيفه الذي يقيم به الدعوى على امتلاكه لحقيقة وطن الإسلام، هو، بل هم الذين قاموا بتحريض المغفلين على حضور محرقة التاريخ العربي، والإسلامي. وتالله، كم يؤلمني أن أقرأ هذه التناقضات بين شوارع المواقف المتحاربة في نازلة واحدة. ففي لحظة يكون الجهاد خروجا عن اخضرار البيعة الشرعية بين القلوب التالية لولاء الإمام، وفي لحظة يكون الخروج عن دائرة الإمام مطلبا شرعيا. فكيف يكون هذا الإيقاع هو غيره بين الجراح القاتلة، وكلاهما من مورد واحد.؟ وأي إفلاس ذلك الذي أصاب رحلة العقول المتدسمة بالجاه، والمال، والمنصب، والمركز.؟ وأي نتيجة استفادتها أمة الإسلام من هؤلاء المهرولين وراء سراب المصالح، والمنافع.؟ قد يكون محيرا لي في كشف موقد الحقيقة، بل لي، ولغيري، هذا السؤال: هل هؤلاء التي انفتحت عنهم أزقة المدينة المدنفة المَدّنية بيادق عاجزة في رقعة شطار السياسة العالمية.؟ لا، بل هل يدري هؤلاء أنهم يقودون الأمة إلى برية تحرق كل ما في طريق القلوب من مقومات، ومكونات.؟ لا، بل هل يفكر هؤلاء فيما يعولون به من أحلام مصنوعة من شمع المأساة، وقد تغير وجهه مرات في موقف واحد.؟ لا، بل هل يعلم هؤلاء أنهم وجهوا سهام طعان قذارتهم إلى خاصرة الأمة الجريحة، لا إلى أولئك الذين أغرقوا سفنهم في بحر المادة المُغررة بالفضيلة، وجعلوهم بوسائل إعلامهم ناطقين باسم الإسلام، لا بحواس المسلمين.؟ قد يكون صعبا علينا أن ننتقذ القرضاوي ومن سار على شاكلته بين طرق الخطابات الزائفة، أو نحكم على نياته التي بدأت أحلامها بيضاء، ونتائجها سوداء، أو نسيء إلى سمعته التي تغرس في عين وردة البهجة، وفي عين عود التعاسة. لكن يبدو لي أن هؤلاء يبحثون عن مدحة الجماهير بين عالم متنافس حول المواقع المجنونة بالحقيقة الضائعة. ربما قد يكون ما أقوله قريبا من الصحة عند من تقلب بين المصائر المختلفة. لا، بل ربما هؤلاء قد اعترتهم غفلة ملتهبة بصداع يهدم هدوء العقل عند احتدام الآراء، وهم لا يدرون في صعوبة الإدراك ما يدبر لهذه الأمة من أنفاس مكتومة بين حروف المكيدة، والدسيسة، لا، بل ربما هؤلاء، يجدون بين جب الفقه ما يسوغون به دخول مدينة الدم الدافئة بين المواقف المتناحرة، والآراء المتعارضة. كل ذلك، قد يكون سببا، أو علة، لكن مشاعر واقعنا المرتبكة بين أصص المعاناة اليوم، لا تبحث عن السبب، ولا عن العلة، لأن التاريخ لن يرحم شارب القهوة على رصيف المدن الملونة ببريق القبلات السرية، كما لن يرحم أولئك اللصوص الذي اكتنزوا المال ببذل ذهول الضمير أمام تاريخ يحمل بين شرايينه أشواكا زرعت بدموع المعولين اسم الدعوة الإسلامية، كما لن يرحم أولئك الذين بتروا حبل العقول بطراوة دقة الصورة، والديكور، والصالة، والإخراج. هذا رأيي بعد زمن من الذكريات الملهمة، وإلا فكيف يكون هؤلاء بالأمس دعاة إلى حلية الوسطية الجميلة المقاطع، واليوم صاروا مطالَبين للعدالة التي تنظف قميص الكون من أدران العنف، والتشفي، والإرهاب.؟ شيء لا أعرفه، وربما قد يعرفه غيري، وربما أداريه، وهو لا يريد أن ينز من عمقي، لئلا أكون جارحا، لا رابحا. في هذه الأيام عشت موقفين جرفا عقلي إلى استلهام تلك اللغة التي تحمل حرجا في ذاتها المدنفة بالنهايات المغروسة بين العقول العارية عن عناقيد الأمل الطافح بالذكريات الجميلة، وإن كانت تخترع بين طواحين فراغها مصطلحات تختلف ما بين هديل الحزن، والأمل، وتختلط في بروقها غيمات الضجر بين السلب، والإيجاب. ففي الموقف الأول الذي لا أطمع في بلوغ شاطئه الممرع بالأصداف الجانحة، كنت أستمع إلى واعظ يتحدث عن حديث الهرج الذي رواه مسلم في صحيح شهده، فأطال في نشر خطاه بين خان التقريع، والتأليم، وأجاد في حبك لحمة سجادة المؤامرة التي يتعرض لها مركب العالم العربي، والإسلامي، وأذرف دموعا مدرارة على عز ضاع، وأمل غاض. استمعت إليه بلا صفة عقل تتعبني، وأنا أتألم لسعير بكائه، وزفير نحيبه، وأردد في عمقي أنينا، وفي عقلي حنينا. فقلت: ربما يحتاج غيري إلى استدار نوال هذا البكاء المجتر لألوان الشقاء الباهرة بين إيوان الحقيقة، لعله يغازل نكبة الحوادث التي تترى على أمتنا بغشائها الحافل بالبشاعة، والتعاسة. وحقا هي مسافات نجتازها بقوارب أليمة، وأثيمة. كلا، بل هذا البكاء المختفي بين الأعيان الضالة عن طرق نشدان المراسي الهادئة، ما هو إلا تعبير عن ضياع عهد الملائكة، وبداية قرن يستحوذ الشيطان فيه على سياسة العالم المدمر للإنسان، والكون. كلا، بل هذا البكاء المحتبس في الأغوار، والأطوار، لم يكن مستساغا بين كثبان الغموم، إلا حين اضطررنا إلى مطره المرتدي لجبة الأمل المشتهى، وصار جزءا مكملا لفصول هذه الحكاية التي لن تنتهي أدوارها إلا باختناقنا بين المدن المحطمة، والدور المدمرة. أجل، هذا البكاء المنتظر لصفح السماء الملبدة بعباءة الانتظار، يعلمنا كيف نرعى خرفان إحساسنا المترعة بنبض الحياة بين ذئاب السهول المبللة بدهاء الخبيث، لكي يخلف فينا ذلك السواد الذي ينقش صورة العالم على راحة غول جشع، أو وحش بشع. ذلك هو الألم الذي تقترحه ألفاظ المأساة بين المعاني المجنونة. وذلك هو العلاج لمرض الفوت الذي ابتكرنا له كفن النهاية، واسترفد له غيرنا مهاد البداية. فنحن في أوطاننا الإسلامية نختنق من رياح الحروب الذي تدمر كل شيء مرت عليه من المواعيد القادمة، وغيرنا تنفسح بين عينيه نظرته إلى الحياة الفسيحة المدى، فيرى بين خيراتنا مساحة مستباحة، وبين أراضينا مسافة مستعمرة. فلم نبكي لما يزرع في طريق مسائنا من بؤس، ويأس، وغيرنا يستفرد بقرصنة أسرار طلاسم العالم وحده. لا، بل يشعر في فرح أعيادنا بزحمة تحجم فراشة نزواته عن التحليق بين زهور بذخه، وترفه. نحن نبكي موت بسمة البنفسج على ضفاف أنهار الآمال الخابية، لأن سوسنة الغرب "البلاستيكية" تنتشر فوق أحلامنا الجريحة بسكاكين أبنائنا المعربدين. بل الغرب يمنحنا عسل المحبة في زق السم لكي تتأمل غربانه نهاية حضارتنا بين رفات بلادة إحساسنا بشموخ الأنواء الساطعة، ثم يكون أنموذجه صورة لامعة لإنسان أنيق يخلب البله برائحة عطره، ورقصة سهره بين أثداء عاهرة تسخر من عشقنا، وشوقنا، وتهمزنا بأشفار ملونة بأنظار تسرق من صدرنا رداءة هذا اللحن المدوي بين أراجيح لعبتنا بأنه الإله المتنور، والمتمدن، والمحتضر. شيء نزرع بذرته هنا مع سماد حزن قلب يتجرع بين أروقة الكون أصلال العقاب، والعذاب. هي بذرة النهاية بين الطين، والماء، وشيء يبنيه غيرنا على جماجمنا المبللة بين المدن بدموع الأمهات القديسات، ونثيث المومسات الساحرات، ويرفعه بين دقائق الساعات المتوقفة عن الإحساس بالزمن المجرد عن كبح قيود النزوات، والرغبات. فواعجبا، إننا حين نبكي زمن استحمارنا، واستبغالنا، لا نمنح خطواتنا أمانا بين الفنارات التي تضيء عمق الشواطئ الهادئة بين ظنون سفننا المحلاة بغبن الإرث الباذخ فينا بالنهاية الأثيمة. بل لا نقيم إلا حصونا تحجزنا عن رؤية ما وراء الديار من مسافات تهدي إلينا غشارات الوصول. هكذا نحن في درك أثرنا، وفهم طيننا. وهكذا هو حين يفرح بسكرة الظفر بقنينة جهالتنا بطعنتة النجلاء، لا يشاهدنا إلا "طقوس" مسرحية يرفه بها عن عينه الصاخبة بالخواء، ويمتع بها شهوته المزركشة بألوان طراوة غروره، وأنانيته. أجل، نحن نقوم بنشاط مخادع بين حرائق أعراضنا بين الكون المتغول بغرائب الأقنعة السوداء، وما نحن فيه لا يخلق إلا الريبة في مصير جسدنا نحو ضريح الحياة السانحة. لكنَّ من نراه بين غيمة السواد تحتوي بين تحفة المحبة، والإخاء، لا يتألم لمآتمنا التي تموج فيها أصوات النائحات المبتهلات بين أمواج الليالي الطويلة، بل ينتشي بتلك الثقة التي لا ندونها بين تاريخ كهوفنا، إلا لكي تتواءم غلمته بين أغوار نظرته الاستعلائية، وترتوي خرافته العمياء بدمائنا التي نسفح صديدها على شجرة الغباوة, والبلادة. فأي حمق هذا الذي يدبرنا بين وهم البحارة المحتشدين حول ظلال السفينة الغارقة، ويدوننا بين طروسه بصوت ندائنا الذي تردده حيطان المباكي بصدى مثخن بالكلمات اليابسة.؟ بل أي قيد هذا الذي يأسرنا في وثبتنا على صخرة التاريخ، ويزم أفواهنا عن نكران وحل التمدن المبني على براءة الإنسان المقتول برائحة المدار الكاسر لأنفاسه الصادحة.؟ إن إخفاقنا في فهم ذواتنا المنبثقة من عمق المعاناة، هو الذي جعلنا نثق بالمتنبئين المشردين بين فواجع العالم بوعود براقة، وهم يقرؤون نهاية مستقبل الأمة العربية والإسلامية فيما يحدث من هزات، ورجات. أجل، سننتهي إلي شيء تافه بين مستشرفات التأويل، لأننا نفقد نص الأمل في بلاغة صمت الحياة بسبب هذا النثر المطرز بلوثة الأوضاع المزرية التي نعيشها بين الذئاب الجاثمة على جسر الوصول. ولا محالة، سيتسلل الحزن إلى حجرة الفرح، وإذ ذاك سنفقد روحنا المعنوية. ولا عيب إذا عكف طير هابيل على غباء الإنسان العربي، لكي يقوده تكالبه إلى وسق معرفتنا بدروب الفكر، والفلسفة، ثم يخلق من تصورنا منية نستدعي بها على بقية عروش حضارتنا، ونستقوي ببربريتها المتوحشة على من يشاركنا نسيم المرابع الأنيسة. فلم البكاء على ردم حفرنا عمقه بأيدينا المشلولة، ونحن موقنون بأننا في خصوبة عقولناقواعد، لا ننجب تلك اللغة الرافضة لنهايتنا، وزوالنا.؟ فلو رفضنا بلغة الإنكار ما تبثه وسائل الإعلام الغربية من نظريات اليأس، والبؤس، لانحاشت أقدامنا إلى بداية الطريق المدهشة، فإما مغامرة من أجل إحياء رميمنا الذي خربناه بانفصالنا عن تاريخنا المفتقر إلى قراءة تنفي ما فيه من خيال قديم، وإما أن نبني قبورنا الجماعية بزنادنا الحائرة برغباتنا المستعارة. وتلك نهايتنا الحقيقية بين مصانع التاريخ، والحضارة. فالأرض لا يطهرها بكاء العجائز على فقدان رسيم الذكريات الجميلة، بل يطهرنا ذلك الجهد الذي نؤمن بتشابك معارك وجوده مستقبل رغد الإنسان على هذا الكون الغريب.! فهل قمنا بتعريف الإنسان بمسئوليته بين الحقول الجدباء، لعله يشارك بجهد حريته في إيجاد مسرات الغذاء، ومحاربة الفقر، وتوفير العمل، وتوقير الأخلاق، والأعراف، والأديان.؟ لو فعلنا ذلك بوعي الإنسان، لا بغباء الآلة، فإننا سنحس بين عواطفنا الراكدة بحكاية الروح للآمال العريضة في هذا الوجود الجميل سكونه في القلوب الرهيفة. فإن عثرنا على مفتاح الحضارة الذي سرق كنزه علوج الاستعمار من أحلامنا البيضاء، فإننا سنخرج إلى نظر العالم من قمقم المارد المتجبر علينا بعواصف حضارته العملاقة، وإن لم نصل إلى نظر الله في الإنسان، فحسبنا أننا نسهم بسهم في بناء حقيقة صرح الإنسانية. ولا محالة لن يخيب أملنا المكبل بأصفاد الاستبداد المتجول بخودته المشؤومة بين طرقاتنا المهمشة، ولو تأخر إيمان الكون بصدق وحي جهدنا بضع سنوات. فما نبنيه اليوم بين عيون التاريخ، قد يسكنه أبناءنا إذا عودناهم على مساكنة ثقافة الأمل، وزرعنا في أعماق شاعريتهم حب الحياة، والطبيعة، والكون، والوجود، والإنسان. يؤلمني كثيرا أننا في وعظنا نزلزل دعامة المفاهيم التي تتحول كلمتها إلى أنماط سلبية بين مفاهيم الحياة المليئة بأغاني القلق، والضجر، والسآمة. بل يؤلمني أن يكون حليبنا مترعا بفقاعات سواد الألم، والموت، والنهاية، ونحن نشارك ببلادتنا صخب أولئك الذين يبغون الأرض عوجا في عرسهم الماجن، والمتهتك، وهم يتسلون بفري أعراضنا، وسفح دمائنا. فأي خزي هذا الذي لحق مناهجنا في التربية، والتعليم، والتثقيف، والتهذيب.؟ لا أخالني أعدو الحقيقة إذا قلت في عتمة هذا اليوم الزاحف وراء زجاجة عقولنا: إننا برخو وعظنا المتجلبب بين أجفاننا بثوب النعاس، نقلب الحقائق في حيرة اليقظة رأسا على عقب، ونثمر بين زخرفة معمارنا خرابا ينحسر في رؤيته عن مضاء عزيمة قابلة في استعدادها لكي تشارك في البناء، لا في الهدم، في الأمل، لا في الألم. وتلك مضرة تلحقنا حين نصور بقاءنا في الحياة رهينا بلحظة تنتشر من بعدها أمراض وثابة، وأبئة فتاكة، تقضي على صوت ناي استقرارنا، ووجودنا. قد يكون من الصواب أن نعترف بدنف الفوضى الخلاقة التي جعلتنا الأقدار ضحية لها بين أعراس طغمة جعلت الغناء نوحا. لكن هل ساورتنا آمال تنتحي بنا نحو هذا العهد الذي سيسود فيه الصالحون جميع بقاع الكون.؟ أليست هذه حتمية غرس القرآن قيمتها في أعماقنا.؟ لو أدركنا ذلك في ردهة انتظار زمن التحليق نحو المعالي، فإننا لن نبكي ما يفرشه صدر الطريق من ريات سوداء، لا ندخل معبد صخبها الهادر، إلا ورسمنا على جدران معابدنا نقوش الفناء بدماء الأبرياء المخالفين لآلهة القتل المنتشرة بين صمت العالم عن نهاية الإنسان. بل سنعترف بعجزنا عن فهم ألفاظ ذواتنا بين قصائد الرحيل، بل عن فهم ذلك المترنح على صخرة الشقاء، وهو يرمي البرايا في هاوية صناعته الفارغة. وإذ ذاك سننطلق نحو تعمير هذا الكون المقتول بالحروب والكوارث التي تهدد نهايته الموشكة. أجل، سينتهي الكون بين أعيننا إذا أيقنا بأننا لا نمتلك قوة على تسخيره في خدمة الإنسان. وفي تلك اللحظة التي لا نميز فيها بين بين الدين، والسياسة، وبين الحرية، والتضامن، وبين الهوية، والعالمية، سيضيع منا مفتاح الكونية الإنسانية. وإذ ذاك سننتهي، لكي يستأثر غيرنا بتدبير الكون وفق إرادة طغمة تفرض الحقوق في جلاء العيون، وتسرقها خلسة عند نوم الأبدان. وهنا، يمكن لنا أن نتعامل مع النصوص بعقلية لا تنفي المسلمات، والبدهيات، ولكنها لا ترتكب حماقة التنبؤ بمستقبل قبيح الوجه لهذه الأمة المنهوبة. فلا حرج علينا إذا روينا أحاديث أشراط الساعة، لكي تكون دعامة للبناء، لا لخلق القلوب الواجفة، والعقول الفارغة. فلو قلنا: إن العالم إذا ساده الهرج سينتهي، ووقفنا عند هذا الحد، ثم قلنا: إن العالم كتلة من الزمن المنظم الفواصل، والمقاطع، والجزئيات، وإذا ما اختل النظام بين الأصل، والفرع، والكلي، والجزئي، انتهى الزمن النائم بين أكوان الذوات الفاترة، وغدا الأمان مطلوبا بين غوامض صيغ المحال، والممكن. ووقفنا عند الحد، وقلنا: هل ما زلنا نشعر بالزمان المدبر للانتصار، والهزائم.؟ ثم بنينا مقدمة أخرى، وقلنا: إذا كنا نشعر بالزمان في بداية الطريق ونهايته، فإننا مطالبون بحمايته، ورعايته. لأن في حمايته حماية المكان، إذ لا زمان بدون مكان، ولا مكان يكون لنا وطنا، ما لم نستشعر الومن أمنا. ووقفنا عند الحد، وقلنا: إذا كان الزمان يتطلب المكان حتى نشعر به بين بؤس الديار، فلم لا نحمي المكان بجنود النيات الصالحة، لكي يكون الزمان نظاما لنا عند سعي الإنسان.؟ ووقفنا عند الحد، وقلنا: ما هي الوسائل التي تجعل مسئوليتنا على الزمان والمكان مفعمة بروح الأمل، ومترعة بالعطاء.؟ هنا يمكن لنا أن نشعر بأننا ما زلنا نعيش الزمان، والمكان. وهنا نحس بدورنا في حمايتهما، وأثرنا في بقائهما، ونهايتهما. تلك ممارسة منطقية لا بد منها في التعامل مع النصوص المقصوصة من إضبارة التاريخ الناظم للحيوات السعيدة، والتعيسة، حتى نبني من المفكك أصلا مركبا، نقيم عليه دعامة الفكر الجبار، والباقر. ففهم النصوص من غير معرفة بالروابط التي تربط بين جزئياتها المختلفة، قد لا يضر بالذوق الجمالي في الإنسان فقط، بل يؤثر سلبا على نظام الكمال في الوجود البشري. فلم نبكي بما نهرول وراءه، وكأننا أدركنا بأن ما نحن فيه، هو النهاية المتحتمة التي لا نهاية بعدها.؟ فأين النَّفس الطويل الذي نحلق به عاليا بين همومنا، وغمومنا.؟ لو أخرجنا من رئتنا ذلك الزفير الصادح بالحقيقة، لغيرنا وجه العالم الملوث بجشاء الجشع، والطمع. لكننا كتمنا أنفاسنا بين دياجير الخوف اللعين، وكأننا لا نفقه أن في كل نفس سفينة من سفن النجاة، وفي كل حركة نحو الساحل أمان من غوائل الأمواج العابثة، والرياح العاتية. فلم يصر وعظنا على إضعاف قوتنا الباطنية بما يزقه في عقولنا من هوس الانتهاء، ونحن ما زلنا نتمتع بالحياة التي أحببنا أن نعيشها بهدوء، وسكينة.؟ كلا، هذه الحتمية التي افترضها عقل الواعظ العاجز عن درك ذاته، والقاصر عن فهم حياته، لم تكن حقيقة إلا في كلامه المعبر عن انحياشه إلى عتمة الأفكار السوداوية. فلم يصر هؤلاء المرضى نفسيا واجتماعيا على إخضاعنا لأمراضهم التي تنخر أعماقهم الهزيلة، والكليلة.؟ شيء يربكني حين أرى هؤلاء المحرومين من التمتع بوجه الحياة الماتعة، لا يتقنون إلا فن الزعيق، والنهيق، والعويل، والصراخ، والنحيب. بل، يؤلمني أن أجد وعاظا يبكون لموت حبيب حبيبهم المحبوب عندهم جيبه، وماله، ومائدته، وهم لا يذرفون دمعة على مئات البشر المقتولين غدرا بين لعنة حروب وحشية. فهل يمكن لهذه الأمة أن تتقدم إلى الأمام، ووعاظها يبكون، ويصرخون.؟ لا، بل هو أمل سقيم سينشأ عليه أبناءنا بين معاهد تبث صوت الدين في نغمة الخرافة، وقد تعودوا على اخضلال لحى هؤلاء بالبكاء الكاذب.؟
|