ذم الذات من جواهر السخرية


أما وقد انشغلنا مؤخرا بما جاد به بعض الشعراء من ظريف القريض، فمن واجبي ألا أنسى أبا الرقعمق الأنطاكي، الشاعر السوري كما نستدل من اسمه. عاش ومات في القرن الرابع الهجري. وكان ممن تخصصوا بالهزل والمجون، وهو كالكثير من شعرائنا وأدبائنا، لم يتمالك غير أن يرحل ويستقر في بلد الفكاهة والظرف، إي نعم، مصر أم الدنيا. وهناك احترف المديح بأسلوب كثيرا ما نم عن روح خفيفة متمردة.
شعر أبي الرقعمق شعر هزيل وقلما نجد فيه ما يعلق في الذهن إلا ما انطوى على الهزل والمداعبة، كقصيدته التي يتغزل فيها بحبيبة بمثل هذا الكلام:
قد سمعنا مقاله واعتذاره
وأقلنا ذنبه وعثاره
والمعاني لمن عنيت ولكن
بك عرضت فاسمعي يا جاره
عالم أنه عذاب من اللـ
ـه مباح لأعين النظارة
هتك الله ستره فلكم
هتك من غير تستر إستاره
وكما هو ديدن الشعراء والأدباء الهازلين والساخرين، يعج شعر أبي الرقعمق بالشكوى والسخرية الذاتية، كما نجد في هذه الأبيات:
لو برجلي ما برأسي
لم أبت إلا بنجد
خفه ليس لغيري
لا أراني الله فقدي
ومحال أن يرى مثـ
ـلي أو يبصر بعدي
فلذا الأمر تراه
يأكل التمر بزبد
غير أني قيل عني
إنني مغرى بدعد
وبليلى وبسلمى
وبسعدى وبهند
ثم لا أملك شيئا
غير سنور وخلد
وحماقات وعمري
إن لي رأسا مرندي
وكله شعر فيه شيء من أنفاس السوريالية كما أشعر. ويتغنى الشاعر بحماقاته ويؤكد لنا أنها لم تكن مكتسبة ولا عن تطبع، وإنما هي موروثة وعن طبع. يقول:
ولم أكسب الحمق لكنني
خلقت رقيعا كما قد ترى!
وله أشعار موغلة في المجون والبذاءة نطوي صفحا عنها، بيد أن له أيضا أشعارا من الحكميات، ولا سيما عندما يعظنا بأن الحمق في هذه الدنيا أنفع من العقل:
عد عن قال وقيل
وصعود ونزول
حصحص العقل فماذا
شئت من قولي فقولي
غير أني أقبل النـ
ـاس لشيء مستحيل
فاسمعن مني ودعني
من كثير وقليل
قد ربحنا بالحماقـ
ـات على أهل العقول
فرعى الله ويبقى
كل ذي عقل قليل
ما له في الحمق والخفـ
ـة مثلي من عديل
فمتى أذكر قالوا
شيخنا طبل الطبول
شيخنا شيخ ولكن
ليس بالشيخ النبيل!