مذكرات منافق

 

الحرية .. كلمة

أشعر بضيق شديد عندما يواجهني منافق .. أريد أن أهرب من نفسي ، فهو مثل غانية تنام كلّ ليلة على سرير ، مثل راقصة في ناد ليلي توزع مفاتن جسدها على جميع الزبائن ، مثل ذباب الموائد تصبح الحياة من دونهم مُملّة !.
إنهم أشبه بفارق تصريف العملة في دكان الصيرفي لا يزيدون عن بضعة دنانير من الخردة تسقط دائماً من الحساب . يحنون رؤوسهم وظهورهم لكلّ مخلوق ، ولو كلفهم نفاقهم أن يجدوا أنفسهم تحت الأقدام . لأنهم من المقاسات الصغيرة ، فكلما أفلسوا من عصر بدأوا ينافقون من جديد ، ظنّاً أن ذاكرة الناس ضعيفة ما تلبث أن تنسى أمام تقلبات الأيام والأهواء !.
وما أكثر الذين تنازلوا عن رأيهم وتراجعوا وبدّلوا مواقفهم وباعوها في دكان الصيرفيّ بفارق تصريف العملة !.. وما أقلّ الذين لا يبيعون ذرّة من أخلاقهم ومروءتهم ومواقفهم ولو بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ولو أعطوا الأقاليم السبعة والكواكب والنجوم والشمس والقمر !.
أختلف معك .. لكنني أحترمك عندما تكون صاحب مبدأ وموقف ، لا أن تتنازل عن الرأي وتبدّل الموقف بتبدّل الأحوال والأموال ، أو إذا التفوا عليك بالمغريات من الطيّبات وغالي الجواهر والدرر !.
ولقد قرأنا عن سقراط الذي تنازل عن الحياة كلها بسبب الموقف ، موقفه من الأثينيين والقوانين الأثينية فشرب السمّ مفضللاً الموت على إطاعة ما كانت من قوانين جائرة !.
والنفاق مهنة ممتعة . نهر من موهبة وإبداع . والشاعر يقول : ( ما دمت في عالم النفاق .. فاعدلْ بساق وملْ بساق ) . والمنافقون طبقات ودرجات ومراتب وأصناف وأحوال ومقامات وأشكال وألوان . ووراء كل خيبة منافق ، ولولا هؤلاء المنافقون لما وصلنا اليوم إلى أسوأ حال .
وفي القران الكريم سورة كاملة اسمها ( المنافقون ) ، قال تعالى : ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إِنك لرسول الله والله يعلم إِنَّكَ لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) .
ولان النفاق يدرّ مالاً وذهباً وحظوظاً في الحياة الدنيا ، فلا عجب أنهم يسرفون في المدائح والتصفيق وتقديم فروض الطاعة والولاء والنصيحة الكاذبة . ويبحثون كل يوم عن سيد جديد يشتري . يتزلفون ويدافعون عن الأخطاء ويُسمّونها مآثر ، ويعتقدون أن التاريخ مجرد أناشيد في الإذاعة والتلفزيون ، ومعلقات من المديح في الصحف ، ويتاجرون بكلّ شيء ، ويُبدّلون الرأي كلما رأوا المال وقبضوا العطايا !.
الغريب .. أننا حتى اليوم لم نقرأ كتاباً واحداً لمنافق يشرح في صفحاته تجربته الذاتية وكيف يمارس هوايته ، برغم أننا نحتاج في كثير من الأحيان أن ندرس سيرتهم الشخصية ونكتشف المجهول في حياتهم ، وكيف استطاعوا أن يحتلوا أرفع المراكز ، وقفزوا من الصفوف الخلفية إلى الواجهة الأماميّة وصعدوا من الصفحة الأخيرة ووجدوا أنفسهم في الصفحة الأولى . ويقيناً أننا نحرص على قراءة هذا النوع من المذكرات الشائقة الممتعة عندما يقدّمون للقارئ وللتاريخ جردة حساب بعنوان ( مذكرات منافق ) !.