قصة ضرب المفاعل العراقي كما رواها الموساد.. كيف تتبع جهاز المخابرات الإسرائيلي خطوات المسؤولين عن البرنامج النووي في بغداد؟ القسم الثاني


العراق تايمز: وكالات

لقد قدم الموساد الواقعة, التي لمحنا فيها جانبا من السذاجة في عملية تسليم الوثائق السرية من بغداد إلى تل أبيب وهو ما حاول الموساد تبريره في انه أخفى جانبا من الحقيقة بهدف التمويه وغير في العديد من الأسماء والأحداث لئلا تظهر خيوط تؤدي إلى كشف هوية الشخصيات والمواقع بالتفصيل ونشرت هذه المعلومات دون ذكر الأسماء الحقيقية للضابطة المسؤولة عن العملية والضابط المشرف على تنفيذها والعالم العراقي المتورط في خدمة "الموساد".


وقد بدأ التخطيط للعملية في مطلع 1980 عندما قررت إسرائيل رفع مستوى اهتمامها بما يجري في العراق من تطوير للأسلحة بعد أن بلغها أن هذا البلد العربي يحاول الحصول على مواد تساعده في صنع القنبلة النووية. وكان الموساد يراقب بالتعاون مع أجهزة استخبارات أخرى في العالم برامج التسلح العراقية خطوة خطوة بدءا بالعمليات الحربية "خلال الحرب الإيرانية العراقية" والتصوير بالأقمار الصناعية وحتى رصد العلماء العراقيين الخبراء في الأسلحة عموما وفي شؤون الذرة بشكل خاص وتحركاتهم داخل العراق وخارجه.. فلاحظ أن عددا منهم يسافرون إلى كل من فنلندا والبرازيل وباكستان وبعض الدول الأوروبية للمشاركة في مؤتمرات ودورات علمية تتعلق بالذرة.. وفي شهر حزيران "يونيو" 1980 التقى كبار علماء الذرة العراقيين "الأعضاء في اللجنة العليا للطاقة النووية" مع عدد من أصحاب الأفران الذرية في إيطاليا وفرنسا وبدا أن الهدف هو إقامة فرن ذري في العراق لأهداف مدنية وفوجئ الأوروبيون بأن العراق يطلب الحصول "على اليورانيوم المخصب 93" والذي يصلح لصنع القنبلة النووية. وقبل أن يعقد اللقاء كان الموساد قد تلقى معلومات تكشف عن اسم الفندق الذي سيتم فيه هذا الاجتماع فقرر رئيس دائرة جمع المعلومات في الموساد "الملقب باسم ميخائيل" أن يسافر بنفسه إلى تلك الدولة ويقيم في الفندق نفسه قبل أن يصل إليه العراقيون مصطحبا معاونيه الضابطة "سارة" والضابط "يوسف".. كما أطلق عليهما..


الخطوة الأولى نحو الفخ
وفي موعد وصول الوفد العراقي, جلس يوسف وسارة في لوبي الفندق ونثرا مجموعة من الملفات والأوراق على الطاولة ليتظاهرا بأنهما يتحاوران حول شروط صفقة جديدة هما في صدد توقيعها كرجال أعمال بارزين.. ووصل العراقيون بالفعل إلى الفندق وبعد فترة استراحة نزلوا إلى اللوبي فقرر الضابط يوسف الانسحاب إلى موقع آخر ليراقب من بعيد فيما بقيت سارة مع أوراقها.. ثم راحت تتفرس في وجوه العراقيين وتراقب تصرفاتهم فردا فردا على أمل أن تتوصل إلى تمييز رئيس الوفد عن زملائه وكانت المهمة بالغة السهولة.. ثم توجهت إلى ميخائيل وأبلغته ملاحظاتها عن العلماء العراقيين فقد وجدت أن أحدهم يبدو حزينا وانعزاليا ولم يشارك باقي أعضاء الوفد أحاديثه أو ضحكاته ولم يغادر الفندق أبدا بل كان طوال الوقت يدخن السجائر بتوتر بالغ, فطلب منها ميخائيل أن "تهتم به" وعادت سارة بعد حصولها على موافقة ميخائيل لتجد العالم العراقي "الذي اختاروا له اسم علي" يجلس في نفس المكان, فاختارت مقعدا يقابله, وعندما التقت عيناهما ابتسمت له فرد على ابتسامتها بأخرى فتقدمت منه وقالت له بحنان بالغ: "لفت نظري أنك تدخن بشكل مؤذ لصحتك وأنا كنت مثلك لكن طبيبا نصحني بهذه العلكة التي تساعد على التخفيف من التدخين ثم التخلص منه فهل تسمح لي بتقديم علبة منها هدية لك؟".. وانطلقت محادثة طويلة بينهما وقدمت له نفسها على أنها مديرة شركة استثمارات كبرى في أوروبا وأنها تعيش أزمة عائلية ستنتهي بالطلاق.. وتطرق العالم العراقي إلى الحديث عن مشاكله الشخصية فهو أب لولد مريض بالسرطان واضطر إلى قطع دراسة الدكتوراه ليهتم بابنه.. وأكملا حديثهما على وجبة عشاء في مطعم الفندق وانتهت السهرة بمنح سارة رقم غرفتها لعلي ثم قالت له: "إذا احتجت إلى العلكة فلا تتردد في الاتصال بي والحضور لأخذها".. وتكررت اللقاءات فسألته عن زوجته, وعن عمله وحياته فأخبرها أن زوجته من أصل غربي.. وأن عائلته تضم العديد من موظفي الدولة واعترف لها بأنه لا يحب النظام الحاكم في العراق وأنه يعمل في مجال التكنولوجيا والعلم وأن زيارته لهذه الدولة التي تقابلا فيها جاءت بهدف تطوير الخبرات العلمية لبلده ولكنه لم يكشف عن علاقته بالموضوع النووي.


وكانت هذه المعلومات كافية كي يتدخل ميخائيل بنفسه, فتقرر أن ترتب سارة تعارفه مع علي, وعندما يدعوها إلى العشاء تختار مطعما محددا وبمجرد ذهابهما إليه تصور لعلي أن الصدفة وحدها هي التي تدخلت حتى تلتقي مع ميخائيل الذي عرفته إليه على أنه "صديق جيد لها وهو نائب المدير العام في إحدى الشركات الضخمة في أوروبا" ثم دعت ميخائيل للجلوس معهما وأخبرته بقصة ابن علي المريض بالسرطان وسألته إن كان مصنع الدواء التابع لشركته قادرا على الاهتمام بمعالجته فأبدى الاستعداد للمساعدة وتبادلا العناوين وأرقام الهواتف.


الصداقة مع الشيطان
واتفقا على أن يحمل معه في زيارته المقبلة إلى الدولة الملف الطبي لولده.. ولم يخبره ميخائيل بالطبع أنه إسرائيلي. وبالفعل كانت هناك لقاءات أخرى.. وأحضر العالم العراقي الملف الطبي وأخذه ميخائيل وأرسله إلى طبيب إسرائيلي.. فقال الطبيب إنه لا يستطيع عمل شيء من دون أن يلتقي الطفل المريض ويجري الفحوصات الطبية اللازمة له بنفسه.. فتم استئجار عيادة طبية خاصة لهذا الغرض.. وتحمس علي للفكرة وشكر ميخائيل وسارة على هذه المساعدة وسافر إلى العراق لكي يحضر ابنه.. لكنه لم يستطع الحصول على إذن لسفر ابنه ففشل المخطط.. إلا أن ميخائيل وسارة استغلا هذه المسألة لتعميق الهوة بين علي وبين النظام في العراق "فأية دولة هي تلك التي تمنع أبا من توفير علاج لابنه المريض؟!" فتتحول العلاقة إلى صداقة حميمة يتعمق فيها الحوار ليصل إلى عالم "البزنس" عندما تطرق ميخائيل إلى موضوع رغبته في أن يقيم فرعا لشركته في بغداد حتى يطور أعماله والعلاقات الاقتصادية بين البلدين, فرحب علي بالفكرة لكن ميخائيل قال له متحفظا بأن هناك مشكلة تعيق تعاونه معه وهي أنه يخشى أن يقوم العراق بتطوير سلاحه النووي فيضع أمواله في المكان الخاطىء إن قامت إسرائيل بتدميره, أو حدث خطأ ما وانفجر, لأنه ستفشل مشاريعه وينهار فرع شركته.. ومن هذا التخوف انطلق ميخائيل إلى موضوع آخر فيجب أن يجري "علي" فحصا دقيقا حول موضوع التسلح النووي في العراق وأعطاه أرقام هواتفه في أوروبا واتفقا على الالتقاء في كل زيارة له إلى أوروبا ثم اتفقا على طريقة الكتابة السرية.. وهكذا شيئا فشيئا وقع علي في الفخ وأدرك أنه يخدم "الموساد" الإسرائيلي وصار يفعل ذلك بوعي وبمقابل مادي.. وبعد أن كشف ميخائيل عن بعض هذه التفاصيل قال في أحد لقاءاته الصحفية: "كنت ألتقي "علي" كلما غادر العراق إلى أوروبا وكان واضحا من المعلومات التي يقدمها لنا أن العراقيين حاولوا الوصول إلى مكان إنتاج القنبلة النووية التي لو انفجرت لأدت إلى مقتل 200 ألف إنسان, فقد كان علي أحد أهم المصادر العراقية والأكثر جودة بالنسبة إلى الاستخبارات الإسرائيلية, لقد أرسل لنا مسودات الخرائط للفرن الذري وتقاريره شكلت أحد المؤشرات الأساسية في القرار الإسرائيلي القاضي بقصف الفرن الذري العراقي وتدميره". ويضيف ضابط الموساد: "لقد التقيته بعد أن قمنا بهذه العملية وكان واضحا أنه يدرك أنه ساهم في ذلك وتوقف بذلك عن مغادرة العراق ولم نعد نلتقي مع أنه كان بحاجة إلى الدواء لابنه.. وقبل أن يقطع اتصالاته بنا, أبلغنا أن الحكومة العراقية بدأت في ترميم الفرن الذري ولم تتخل عن مخططاتها لإنتاج القنبلة الذرية وفهمت في ما بعد أن ابنه توفي متأثرا بالمرض وأن وفاته هي السبب في قطع العلاقات مثلما كانت السبب في العلاقة منذ البداية"..


القصة العراقية لضرب مفاعل تموز
يعود الطرح العراقي لامتلاك السلاح النووي وتحقيق انعطافة قوية في البناء العسكري إلى عام 1959 أي بعد عام من ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 التي قادها عدد من الضباط العراقيين ضد الحكم الملكي في العراق حيث تم توقيع اتفاق أولي مع الاتحاد السوفييتي السابق وذلك من أجل التعاون النووي.


وفي تموز (يوليو) 1960 تم التوقيع على بروتوكول نهائي لبناء مفاعل نووي تجريبي صغير للأغراض السلمية بطاقة 2 (ميغاواط) في التويثة, بين العراق والاتحاد السوفييتي وبالفعل سلمت موسكو بغداد اليورانيوم 235 المخصب بنسبة عالية وبادرت إلى تأهيل وتدريب وتعليم خبراء عراقيين لإدارته.

 

المشرق