الإعلام بين التحليل الاستراتيجي والتهريج |
بعد سقوط هيكل نظام صدام حسين وبدء الخطوة الأولى باتجاه صناعة ما سمي بالربيع العربي من قبل أحفاد أولئك الذين رسموا خارطة المنطقة في اتفاقية سايكس بيكو، انطلقت مرحلة جديدة في إنتاج نافورة الإعلام التي بدأت بالعمل دون توقف، بل دون أي كوابح للتفريق بين عمليات التهريج والفوضى الأخلاقية، وبين التعبير عن الرأي وبناء المجتمعات بناءا حضاريا يحترم الآخر المختلف بسياقات ومعايير مهنية رفيعة تستند إلى فكرة المواطنة الخلاقة، مرحلة اتسمت بظهور أحزاب ومنظمات وحركات سياسية ربما أضعاف ما يحتاجه سكان العراق وبقية بلدان الربيع العربي في التعبير أو التمثيل عنهم، والانكى من ذلك كله ظهور نمط من الكائنات الإعلامية الصوتية التي يطلق عليها الخبراء أو المحللين الاستراتيجيين الذين لم تخرجهم لا جامعة محلية ولا أجنبية اللهم إلا إذا استثنينا سوق أمريدي الذي طورته مستلزمات المؤسسات التي تم إنتاجها بصناديق الاقتراع في المجتمعات القبلية والأمية الحضارية والأبجدية والولاء المتعدد، حيث يفترض بأعضاء تلك المؤسسات القادمين من بواطن تلك المجتمعات أن يحملوا فورا شهادات تليق بمراكزهم الجديدة، فأصبح لدينا على موروثنا القديم سوق عكاظ وسوق الجمعة وسوق هرج وسوق مريدي، الذي تباع فيه أنواع الشهادات وتمنح من على بازاره الأوسمة والأنواط، فقد امتلأت العديد من الشاشات الفضائية بل ملأت فراغاتها بأولئك الذين يطلقون على أنفسهم الخبراء الاستراتيجيين أو المحللين الاستراتيجيين، علما إن أفضلهم لم يحصل إلا على بكالوريوس علوم عسكرية أو تاريخ أو علوم سياسية من أيام قائدهم الضروري ودروس الثقافة القومية.
والأمثلة كثيرة في عالم تتخبط فيه هذه الكائنات بغياب أنظمة سياسية حقيقية وقوانين تنظم فعاليات الإعلام وتعريفات قانونية وأكاديمية حقيقية للألقاب والتوصيفات في فضاء الحرية الذي لوثته المفاهيم الخاطئة لممارستها والتعبير عنها، ولعل مراقبة سريعة لشاشات التلفزة أو صفحات بعض الصحف تعطينا صورة بائسة عما تفعله هذه الظواهر الصوتية التي تعتاش على إشاعة مفاهيم الكراهية والتناحر وتسطيح عقول الأهالي، خاصة وهي تلعب على كل حبال الأنظمة، ففي الأمس القريب كانت في مقدمة وعاظ السلاطين في خيمة القذافي أو قصور صدام حسين أو دهاليز حافظ الأسد وورثته، واليوم تصدع رؤوس الأهالي بتحليلاتها الإستراتيجية، خاصة أولئك الذين فقدوا شرفهم العسكري بخيانتهم لرؤسائهم أو عمالتهم لجهات أجنبية من اجل منصب أو مبلغ من المال، وتحولوا بين ليلة وضحاها إلى خبراء ومحللين استراتيجيين لخدمة الرؤساء الجدد، ولعل خير مثال على تلك النماذج احدهم الذي كان مديرا لاستخبار رئيسه العسكرية وقدم بتلك الصفة لقائده الذي وبخه لاستخدام موقعه في قطع الطريق العام أمام موكب زفاف نجله، فتحول بقدرة قادر إلى معارض همام من اجل الوطن والشعب، هذا " الكائن الاستراتيجي " قدم لصدام حسين بعد هزيمته في الكويت قائمة بأسماء 37 ضابطا شيعيا مقترحا طردهم من الجيش بسبب طائفتهم وادعائه بعدم ولائهم، وتم طردهم فعلا، إضافة إلى قائمة أخرى ضمت أسماء 40 ضابطا شيعيا آخرا اقترح طردهم أيضا لكن صدام رفض هذه القائمة بعد أن افتضحت طائفيته، ويظهر اليوم أكثر من " توم وجيري " على شاشات التلفزة مادحا القائد الملهم مختار زمانه وعصره فخامة نائب رئيس الجمهورية، ومتهجما على كل من خالف المالكي وتوجهاته الشمولية المقيتة، وهو يصف صدام حسين ونظامه باسوء التوصيفات، متناسيا انه حصل على 22 سيارة من صدام لشجاعته في قمع الانتفاضة في الجنوب وكوردستان، وبطولاته النادرة في الحرب مع ايران التي كان يصفها بالفرس المجوس، وأصبحت الآن الجارة والحليف الاستراتيجي للعراق كما يصفها محللنا الاستراتيجي جدا!.
هذا النموذج واحد من عشرات الكائنات الإعلامية التي أنتجتها حقبة الدكتاتورية في معظم بلدان الشرق الأوسط، لتعود وتزرعها في بيئة الربيع العربي، في محاولة لمسخ أي خطوة جدية باتجاه بناء مجتمعات وأنظمة مدنية متحضرة نظيفة، وهي تعتلي منابر الإعلام العربي المرئية أو المقروءة لتشوه وتمسخ الألقاب والتوصيفات والمواقع الأكاديمية، وتحيلها إلى مقطوعات من التهريج والارتزاق وتشويه الحقائق وتسطيح الرأي العام لإشاعة الإحباط واليأس من أي محاولة لبناء أنظمة حكم ناضجة ورشيدة.
|