في جلسة الإستماع أمام اللجنة المكلفة بإستجواب أبرز رموز الإدارة الأمريكية الأوبامية رأيت الثلاثي (وزيري الدفاع والخارجية ومعهم جنرال الأربع نجوم ديمسي قائد الأركان) في موقع يبعث على الأسى ويستحق العطف وذلك في جلسة التحقيق التي إنعقدت لمعرفة فيما إذا كان الموقف العسكري الأمريكي على الأرض في كلا الساحتين العراقية والسورية يسمح ويستدعي تدخلا واسعا يجري بمباركة الكونغرس نفسه. أستطيع ان اقول إنني مهتم بمتابعة جلسات كهذه منذ أن راح الكونغرس الأمريكي يحقق في العام الذي سبق الإحتلال الأمريكي للعراق مع مسؤولين أمريكيين لمعرفة ما إذا كان رأس النظام العراقي السابق قد اينع وحان قطافه, وكنت حينها في زيارة لإبنتي التي كانت تواصل دراستها من أجل الحصول على ممارسة الطب في أمريكا. ويوم عدت إلى العراق بعد تلك الزيارة القصيرة أتذكر إنني قلت لكثير من معارفي أن القرار بغزو العراق قد تم إتخاذه فعليا. ثمة كثير من الذي يمكن قوله عن تلك المرحلة, لكن ما دمنا في موضوعة جلسات الإستماع تلك أستطيع أن أقول أنه كان بإمكان المتابع لها أن يخرج بنتيجة تقدم له نموذجا مبسطا للهزيمة العسكرية والسياسية الأمريكية وخاصة في العراق, ففي وجوه القادة السياسيين والعسكريين الثلاثة كان يمكن قراءة مدى العجز والخيبة التي تعانيها أمريكا نتيجة سياساتها الكارثية في المنطقة, إذ أن ثلاثتهم أجمعوا على أن أمريكا باتت تخشى على جنودها في العراق, لو أنهم ذهبوا إلى هناك, من خطر فتك الميليشيات العراقية المدعومة من إيران مما يجعلهم بين فكي كماشة, فهناك داعش من جهة وتلك الميليشات من جهة أخرى. إذا وضعنا صورة الإجتماعين, ذلك الذي جرى قبل عام من الإحتلال وذلك الذي إنعقد قبل عامين, في مشهد واحد ثابت, ثم رحنا نتمعن في الوجوه والأقوال, ونتفحص الصورتين معا لنركب منها المشهد الأخير فسوف لن نواجه صعوبة في رؤية كيف يمكن لإمبراطورية طويلة عريضة تصول وتجول في البحر والجو والفضاء بسفنها وطائراتها ومركبتها الفضائية ثم ترى نفسها وقد باتت عاجزة تماما عن أن تضع قدما لها على الأرض. لنضع جانبا نظرية المؤامرة, تلك التي يذهب أصحابها مباشرة للتأكيد على أن الوضع في العراق وما يحيطه هو نتيجة تآمر أمريكي فارسي مشترك ضد العرب والعروبة, ولنفترض أن الدمار الشامل الذي حصل للمنطقة لم يكن مقصودا بالمرة , بل أنه كان نتيجة لهفوات سياسية ليس إلا, فسيعطينا نحن, الطارئون على السياسة, والذين ينظر إليهم عباقرة (الثنك تانك) الأمريكان من أطراف أنوفهم, حق السخرية منهم جميعا, كونغرسا ووزراء خارجية ودفاع ورؤساء أركان وسادة للبيت الأبيض, وذلك لأنهم كانوا جميعا مسؤولين عن تحويل أمريكا إلى مخلوق فضائي يستطيع أن يطير لا أن يسير, وتحويلنا على الطريق نفسه إلى بلد ممزق وشعب تائه مهجر يتقاسمه الإرهاب من جهة والميليشيات الطائفية من جهة أخرى ومعهما سياسيون إتقنوا جيدا لعبة الصيد في المياه الضحلة الآسنة. ليس أوباما وحده من يتحمل مسؤولية ما آل إليه الوضع الأمريكي على أرض العراق وسوريا, أو ذلك الذي كاد, لولا رحمة ربك, أن يكون عليه وضع مصر على يد الأخوان, فالجمهوريون بقيادة بوش الإبن كانوا رواد الفضاء الحقيقين يوم تصوروا أن مجرد ذكرهم لعبارة (مشن أكومبليشد) على الطريقة الهوليوودية سوف تجعلهم سادة للعالم. لكن كل ما فعلوه بعد أن إقتلعوا الدولة العراقية برمتها وليس النظام الصدامي لوحده, أنهم أكدوا على أنهم رواد فضاء لا رواد أرض. هكذا بدت لي صورة أمريكا يوم شاهدت جلسة الإستماع الأخيرة, مثل رجل مهووس بالسكن في الطابق الأعلى من ناطحة سحاب لأنه مغرم بالنظر للعالم من فوق, ثم حينما أفاق ذات صباح وأراد النزول إلى الطابق الأرضي فقد وجد هناك من أخبره أن زر المصعد الكهربائي هو تماما في الطابق الأرضي وبيد بواب إسمه سليماني. وسليماني هذا ربما لا يتقن فن التحليق في الفضاء لكنه بكل تأكيد خبير بفن المشي على الأرض. وفي الصراع بين الإمبراطوريات القديمة المتجددة والإمبراطوريات الجديدة المتطايرة .. الفوز لمن يتقن فن المشي على الأرض لا من يتقن فن التحليق في الفضاء
|