الدكتور مُصدّق وعبد الناصر والمخابرات الأمريكية


فى يوليو1952 استولى الضباط بقيادة عبد الناصر على حكم مصر، وفى نفس العام ونفس الشهر شكــّـل د. محمد مصـدّق الحكومة الإيرانية بعد انتخابات ديمقراطية. استمرّ عبد الناصر فى الحكم حتى وفاته فى عام 1970، بينما تمّتْ الاطاحة بمصـدّق فى أغسطس53 بمعرفة المخابرات الأمريكية. والسؤال الذى لم يتوقف أمامه أحد (من عروبيين وماركسيين، ودع عنك الناصريين والإسلاميين) لماذا تخلــّـصتْ المخابرات الأمريكية من مصدّق ولم تتخلــّص من عبد الناصر؟ وأهمية هذا السؤال محوره الأسطورة الناصرية/ العروبية القائلة أنّ عبد الناصر ((كان ضد أميركا، وأنّ أميركا كانت ضده وتود التخلص منه)) وحتى الباحث والصحفى الأمريكى الجاد (روبرت دريفوس) ردّد تلك الأسطورة فى كتابه (لعبة الشيطان- دور الولايات المتحدة فى نشأة التطرف الإسلامى) الصادر عن مركز دراسات الإسلام والغرب- سبتمبر 2010 ترجمة أشرف رفيق) فكتب دريفوس أنّ المخابرات البريطانية والمخابرات الأمريكية نجحتا فى الاطاحة بمصدٌق وفشلتا فى الاطاحة بعبد الناصر (ص110) ولكنه لم يذكر السبب. وهنا لابد للعقل الحر أنْ يسأل : لماذا كان النجاح فى الاطاحة بمصدّق ولماذا كان الفشل فى الاطاحة بعبد الناصر؟ ولماذا كانت القدرة والكفاءة والخطة المدروسة بإحكام مع مصدّق والفشل مع عبد الناصر؟ أليست مخابرات الدولتيْن بكفاءة واحدة وآليات واحدة؟ أم أنّ عبد الناصر كان يرتدى (طاقية الإخفاء) أو كانت الملائكة تحرسه؟ 
كانت خطة الاطاحة بمصدّق شديدة الإحكام وفق سيناريو مدروس بدقة. وفد اعترف دريفوس بذلك فذكر أنّ من المعلومات التى قلــّما يُشير إليها الباحثون، أنّ المخابرات البريطانية والأمريكية تعاونتا مع رجال الدين الإيرانيين لإضعاف مصدّق والتمهيد لإقالته، وكانت وسيلتهم لتحقيق ذلك الاستعانة ((بغوغاء الشوارع بعد أنْ دفعتْ لهم المخابرات الأمريكية (المال اللازم) وعبّـأتهم بكلام رجال الدين ضد مصدّق وتشويه صورته بأنه شيوعى وتابع للاتحاد السوفيتى. وكان آية الله سيد أبو القاسم كاشانى هو الشخصية المحورية فى الحملة ضد مصدّق، وهو (كاشانى) الذى سيكون معلمًا لآية الله روح الله الخمينى. وأنّ كاشانى لم يستعن بالغوغاء فقط وإنما بقطــّـاع الطرق وجماعة (فدائيى الإسلام الإرهابية) التى تضم مُـتطرفين إسلاميين. وفى الوقت الذى كان كاشانى يكتب التقارير مع ممثلى المخابرات الأمريكية، كانت وحدة سرية تابعة للمخابرات الأمريكية تعمل مع كاشانى لتعبئة أتباعه للمواجهة فى الشوارع. وفى مذكرة لوزارة الخارجية الأمريكية كتبها أحد حلفاء كاشانى جاء فيها أنّ هذا الفعل لمعاقبة الشيوعيين. كما أجرتْ المخابرات الأمريكية والبريطانية الاتصالات طوال عامى1952، 53 مع كاشانى وعدد من القادة الدينيين الإيرانيين وعرضتْ عليهم الأموال ومزايا أخرى للانفصال عن مصدق وتأييد الشاه. وقاد البريطانيون العملية باستغلال شبكة استخباراتية واسعة فى إيران منها عناصر من الشركة الأنجلو إيرانية للنفط ولها مخابرات خاصة تعمل بسرية تامة ولها مكتب معلومات مركزى. وكان لأستاذة الدراسات الشرقية والإفريقية (آن لامبتون) فى جامعة اكسفورد الدور المهم (من خلف الكواليس) من أجل إقالة مصدق واعترفتْ بأن كاشانى تلقى أموالا كثيرة ((من مكان ما قد يكون المخابرات الأمريكية)) 
أما ضابط المخابرات الأمريكى (جون والر) اذى أدار العمليات السرية الأمريكية فى إيران، وأقام علاقات طيبة مع آيات الله خلال سبع سنوات قضاها فى إيران، فقد اعترف أنّ كاشانى قال له أنه رفض التحالف مع مصدق ((لأنّ مصدق كان متساهلا مع حزب توده الشيوعى)) 
وسأل دريفوس سؤال : هل موّلتْ المخابرات الأمريكية كاشانى بشكل مباشر؟ وأجاب : نعم وفق كلام (جون والر) الذى قال إنّ المخابرات الأمريكية موّلتْ كاشانى ومن حوله ، وكانوا يغدقون الأموال على قنوات اتصاله وعلى من هم فى جنوب طهران. وأَضاف دريفوس أنّ المخابرات الأمريكية والبريطانية وجدتا أنه من الأسهل التعامل مع كاشانى للتحريض على المظاهرات فى الشوارع ضد مصدق وضد الشيوعيين وتشويه صورة اليسار الإيرانى. ووصل الأمر لدرجة أنْ روّجتْ المخابرات الأمريكية دعاية عن الغوغاء فى الشوارع بأنهم أعضاء فى حزب توده الشيوعى. واستأجر عملاء المخابرات البريطانية أعضاء مُزيفين ونسبتهم لحزب توده ودفعتْ لهم مبلغ خمسين ألف دولار أمريكى سلــّمها ضابط فى المخابرات الأمريكية. وكان هؤلاء الأعضاء المزيّفون يلقون بالحجارة على المساجد وعلى الملالى (آيات الله) وكان الهدف من ذلك هو إرهاب الإيرانيين وجعلهم يعتقدون أنّ انتصار مصدّق سوف يكون انتصارًا لحزب توده والشيوعيين والاتحاد السوفيتى ومعاداة الدين. ومن المفارقات أنه بعد عودة الشاه إلى الحكم تمّ تكثيف الجهود لإعادة (المارد الإسلامى) إلى الزجاجة، لكن قوة الإسلام السياسى كانت قد استيقظتْ بفضل المخابرات الأمريكية والبريطانية، ولن يكون من السهل تهدئة تلك القوة مرة أخرى، وبتعبير دقيق فإنّ القوى التى أطاحتْ بالشاه فى عام 1979، هى نفس القوى التى أعادته إلى السلطة عام 53. 
والآن نأتى إلى إجابة السؤال الجوهرى : لماذا نجحتْ المخابرات الأمريكية والبريطانية فى اسقاط حكومة مصدّق ولم تنجحا فى إسقاط عبد الناصر وضباط يوليو؟ وإذا كان الناصريون/ العروبيون/ الماركسيون يُروّجون لأسطورة (محاولات المخابرات الأمريكية العديدة لإغتيال عبد الناصر) فلماذا لم تنجح محاولة واحدة؟ بينما نجحتْ المخابرات الأمريكية فى إغتيال العديد من الشخصيات العامة، لعلّ أشهرهم سلفادور اللندى؟ بالتعاون مع شركة النحاس الأمريكية. الإجابة أنّ مصدّق تحدى الإدارة الأمريكية والشاه وأمّم صناعة البترول وأكد على ضرورة السيطرة على بترول بلاده من أجل الشعب الإيرانى، بدلا من الشركة البريطانية/ الإيرانية. وكان قرار مصدّق ضربة موجعة لبريطانيا حيث كانت الشركة من أهم الأصول التى تفتخر بها بريطانيا الاستعمارية. وكانت واشنطن تختلف مع بريطانيا حول بترول الشرق الأوسط ، وكانت تأمل فى أنْ يتعاون مصدّق معها ويسمح للشركات الأمريكية بدخول إيران والعمل فى مجال البترول، فلما رفض مصدّق انقلبتْ عليه وانضمّت لبريطانيا لإقالته. وجاء فى أحد تقارير المخابرات الأمريكية فى أكتوبر52 ((هناك تقارير عديدة عن مؤامرات لإقالة حكومة مصدّق . وجاء ذكر اسم كاشانى وضباط فى الجيش الإيرانى فى تلك التقارير. وأنّ المواجهة ستكون فى الشوارع بين القوى المؤيدة لمصدّق والمُؤيدين لكاشانى مريرة ومّـدمّرة)) (كتاب دريفوس المشار إليه بعاليه من ص109- 136) 
ولكن يبدو أنّ دريفوس (الأمريكى) ناصرى الهوى، بدليل أنه ردّد ما يقوله الناصريون عن أنّ العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 كان فاشلا (ص60) فكيف يكون فاشلا بعد تدمير مدن القناة بالكامل؟ وبعد قتل الآف من شعبنا (مدنيين وعسكريين)؟ وتهجير أبناء مدن القناة؟ والخسائر فى المعدات العسكرية؟ وتكاليف إعادة إعمار مدن القناة؟ بل والأخطر والأهم هو الشرط الذى وضعته إسرائيل للإنسحاب، حيث اشترطتْ أنّ الانسحاب من شرم الشيخ وقطاع غزة وفقــًا لقرار الأمم المتحدة رقم (1) لسنة 57 ((مقابل حرية الملاحة الإسرائيلية والدولية فى خليج العقبة ومضايق تيران)) وهو ما تمّ بالفعل، هذا بخلاف وجود قوات الأمم المتحدة فى سيناء، فكيف – مع كل تلك الوقائع – تكون حرب السويس سنة56 فاشلة؟ كما كتب دريفوس (الأمريكى) فى تطابق تام مع الناصريين؟ وعن تلك الحرب، وتلك الأيام السوداء من تاريخ مصر، كتبتْ جولدا مائير ((بدأتْ حملة سيناء صباح يوم 29/10/56 وانتهتْ فى 5/11/56. لقد أخذ الجيش الإسرائيلى أقل من مائة ساعة لاجتياز الحدود والاستيلاء على كافة قطاع غزة وشبه حزيرة سيناء من المصريين، وهى منطقة تبلغ مساحتها ضعفىْ ونصف مساحة إسرائيل. ولقد اعتمدنا على عنصر المفاجأة والسرعة وتشويش الجيش المصرى تمامًا. وقد تحققتُ بنفسى من مدى النصر الذى أحرزناه عندما ذهبتُ لزيارة شرم الشيخ وقطاع غزة. لقد كانت هزيمة المصريين تامة (الأدق هزيمة الجيش المصرى- ط . ر) وقضينا على خلايا الفدائيين. وتمّ الاستيلاء على مئات الآلاف من قطع السلاح وملايين الأطنان من الذخيرة معظمها من صنع الروس. وانهار ثلث الجيش المصرى وتمّ أسر خمسة آلاف جندى مصرى من أصل ثلاثين ألفـًا. وتبعثروا فى الصحراء لإنقاذهم من الموت عطشـًا. وتمّ تبادل الأسرى المصريين بجندى إسرائيلى أسره المصريون)) وعن نتائج حرب 56 أضافتْ أنّ ((هجمات الفدائيين قد انتهتْ ، ومبدأ حرية الملاحة من خلال مضايق تيران تمّ فرضه. وستتمركز القوات الدولية فى غزة وشرم الشيخ. لقد أحرزنا نصرًا صنع تاريخنا العسكرى)) (حياتى- دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية- ترجمة الدار- عام 89- من ص135- 138) 
وعن فترة الصرع بين عبد الناصر وملك السعودية (فيصل) نقل دريفوس ما ذكره (ديفيد لونج) الذى عمل فى الخارجية الأمريكية وتخصّص فى شئون السعودية والخليج أنه كتب ((كنا نحن الأمريكيين ومعنا الإسرائيليين نــُشوه صورة ناصر ونــُصوّره على أنه بعبع)) (ص105) ورغم ذلك كتب دريفوس أنّ الإدارة الأمريكية فشلتْ فى احتواء عبد الناصر ولم تتمكن المخابرات الأمريكية من الاطاحة به (ص110) ودافع دريفوس (الأمريكى) عن عبد الناصر بأسلوب إنشائى فكتب ((إنّ ناصر اختلف عن زعماء أمريكا اللاتينية وإفريقيا فى نظرته الثورية اتى تــُهدّد استراتيجة أمريكا)) (ص112) ولكنه لم يذكر مثالا واحدًا عن ((تهديدات عبد الناصر لاستراتيجية أمريكا)) إلاّ إّذا اعتبر أنّ (ثورة) اليمن، كانت تــُهدّد مصالح أمريكا وبريطانيا (وهذا صحيح) ولكنه لم يكتب كلمة واحدة عن خسائر مصر فى حرب اليمن (سواء أرواح جنودنا وضباطنا أو المال والمعدات إلخ) أو إذا اعتبر أنّ تنظيم (الأمراء الأحرار) السعوديين الذين ((فروا إلى مصر بقيادة الأمير طلال وطالبوا بتحويل المملكة السعودية إلى جمهورية، بإيعاز وتشجيع من عبد الناصر) تهديد لاستراتيجية أمريكا المسئولة عن حماية السعودية (وهذا حق) ولكنه فى نفس الوقت إهدار لقدرات مصر، وخلق صراعات جلبتْ على مصر الكثير من الخراب ، خاصة بعد تدخل عبد الناصر فى شئون معظم الدول العربية. وبسبب هذا التدخل تمّ تبديد موارد مصر، كما ذكر ضابط المخابرات المصرى (فتحى الديب) المولع بالناصرية والعروبة فى كتابه (عبد الناصر وتحرير المشرق العربى) الصادر عن مركز الأهرام – عام 2000. 
وما جعلنى أتشكـّـك فى صدق نوايا دريفوس قوله ((رتبتْ لندن وباريس لإسرائيل الهجوم على مصر بلا مُبرّر)) (ص123) فهل زعماء هذه الدول بلهاء أو معتوهين؟ أم أنّ هدفهم هو تدمير أى محاولة للتنمية الاقتصادية بدفع فاتورة الحروب (56، اليمن من 62- 67، ثم كارثة بؤونه/ يونيو67؟) كما سخر دريفوس من مايلز كوبلاند مؤلف كتاب (لعبة الأمم) لأنه كتب عن عبد الناصر ((أنه أكثر القادة الشـُجعان الجريئين الذين قابلتهم فى حياتى)) (123، 124) واستخدم دريفوس تعبير أنّ ((كوبلاند كان لا ينفك يُبدى إعجابه بناصر)) ليُـوحى بأنّ شهادة كوبلاند فيها تشويه لصورة عبد الناصر، خاصة وأنّ المديح من ضابط مخابرات أمريكى وكتابه واسع الانتشار. رغم أنّ دريفوس كتب أنّ أميركا ((دجّجتْ ناصر بالسلاح)) وفى آخر الجملة أضاف ما يُناقض أولها حيث كتب ((ومن خلف الكواليس كانت المخابرات الأمريكية تعمل على إقصائه)) (ص111) فكيف – وفق علم المنطق – تمده بالسلاح وفى نفس الوقت تعمل على إقصائه؟ وعندما ذكر إنشاء محطة إذاعة (صوت العرب) لم يكتب كلمة واحدة عن دور المخابرات الأمريكية فى إنشاء تلك المحطة الإذاعية المشبوهة التى تمّ افتتاحها يوم 6 يوليو53، أى بعد سنة من سيطرة الضباط على حكم مصر. وهى الحقيقة التى ذكرها كوبلاند وكذلك ضابط المخابرات الأمريكى (ويلبر كرين إيفلاند) فى كتابه (حبال من رمال) والأكثر دلالة فى دفاع دريفوس عن عبد الناصر عندما كتب ((عاد كيم روزفلت إلى واشنطن لإقناع الحكومة الأمريكية بأنها ينبغى أنْ تقبل إقالة فاروق، وليس هناك ما يؤكد شهادة كوبلاند)) (ص 114) ولكى يبدو موضوعيًا أضاف ((غير أنّ أمريكا كانت لها علاقات جيدة بصفة عامة مع الحكومة المصرية الجديدة)) وبينما ذكر أنّ ((الملفات السرية التى فـُتحتْ لا توفر أى دليل على صحة كلام كوبلاند ، وقع فى التناقض - فى نفس الصفحة - عندما نقل ما كتبه (جويل جوردان) فى تقاريره من واقع الملفات السرية التى كوّنتْ كتابه (حركة ناصر المُباركة) وكتب فيه ((إنّ العلاقات بين السفارة الأمريكية فى القاهرة والنظام الجديد كانت طيبة)) بل وأكثر من ذلك اعترف دريفوس بأنّ ((ناصر حصل على تأييد أمريكى عند ظهوره وتوليه السلطة)) (125) ويبدو دفاعه عن عبد الناصر أكثر عندما كتب ((كان عبد الناصر يُمثــّـل خطرًا داهمًا على أيديولوجيات الحرب العالمية الثانية التى وضعتها حكومة أيزنهاور، بعد خروجه مُـنتصرًا من حرب56)) (ص136) وهكذا خلع دريفوس كل الأقنعة، لأنّ كارثة حرب56 لا تقل عن كارثة بؤونه/ يونيو67 باعتراف ضباط يوليو الذين كتبوا مذكراتهم مثل خالد محيى الدين وعبد اللطيف البغدادى وآخرين (لمن يود التأكد عليه الرجوع إلى سلسلة مقالاتى على الحوار المتمدن عن مذكرات ضباط يوليو52) وكيف يُمثــّـل عبد الناصر خطرًا على أميركا بينما كتب إيفلاند أنّ الإدارة الأمريكية هى التى ((ساعدتْ عبد الناصر ليكون رجل الساعة)) (حبال من رمال- ص202) وأنّ مايلز كوبلابد كتب ((إنّ عبد الناصر سيُصبح قريبًا المُـتكلم باسم القومية العربية)) (65) وأنّ المخابرات الأمريكية ((تــُـقـدّم المساعدات السرية لعبد الناصر)) (105) ومساعدة أمريكا لضباط يوليو ((حتى يخرج الإنجليز من مصر)) (من 58- 60) أما الهدف الثانى من الأسلحة الأمريكية لضباط يوليو فهو ((تطوير قدرة مصر على ضبط الأمن الداخلى)) (64) أى لقمع الجماهير. واعترف ضابط المخابرات الأمريكى إيفلاند ((إننا نحن الأمريكان جعلنا من عبد الناصر عملاقــًا)) (116)
وتوجد واقعة اعترف بها معظم ضباط يوليو، وذكرها محمد نجيب بالتفصيل فكتب ((لبيتُ دعوة إلى منزل البكباشى عبد المنعم أمين. وكان حاضرًا معنا جيفرسون كافرى وأربعة من رجال السفارة الأمريكية. علمتُ فيما بعد أنّ إثنين منهم من رجال المخابرات الأمريكية. وكان معى جمال عبد الناصر وزكريا محيى الدين. وفى لقاء آخر قال جيفرسون إنّ حكومته تخشى تسلل الشيوعية إلى مصر، وعرض معاونة أجهزة المخابرات)) وكتب المؤرخ العمالى طه عثمان سعد (وهو ناصرى الهوى) ((وهكذا يتأكد دور المخابرات الأمريكية فى أحداث كفر الدوار التى أحاطتْ قادة الجيش عن شيوعية مصطفى خميس وقادة العمال فى كفر الدوار، والتخويف من تحركات العمال فى مناطق أخرى مثل شبرا الخيمة والمحلة الكبرى. وأنّ ما حدث فى كفر الدوار كان عربونـًا للأمريكان فى محاربة الشيوعية)) 
ويجب ربط ذلك بما ذكره مايلز كوبلاد فى كتابه (لعبة الأمم) حيث كتب ((إنّ المخابرات الأمريكية التقتْ ثلاث مرات فى مارس52 بعبد الناصر وجماعته واتفقتْ معه على إشاعة الشعور بين المصريين بأنّ انقلابهم ليس مفروضًا من الإنجليز أو من الأمريكان أو من الفرنسيين أو الأتراك. وسمحتْ له بأنْ يُـهاجم هذه الدول فى خطبه بعد الانقلاب ليبقى التعاون سرًا بين المخابرات الأمريكية وبين الانقلاب)) وإذا كان الناصريون/ العروبيون/ الماركسيون يتشككون فى شهادة كوبلاند، فهل يتشككون فى شهادة الماركسى/ الناصرى (خالد محيى الدين) الذى ذكر أنه هو الذى كتب الوثيقة التى عُرفتْ فيما بعد باسم (أهداف الضباط الأحرار) وكتب فيها القضاء على الاستعمار الإنجليزى والفرنسى والأمريكى. فاعترض عبد الناصر على عبارة (الاستعمار الأمريكى) ولما دافع خالد عن وجهة نظره قال عبد الناصر إنّ ((تعبير الاستعمار الأمريكى لا يستخدمه إلاّ الشيوعيون)) ومع ملاحظة أنّ هذا الاجتماع كان فى صيف عام 1951(والآن أتكلم- مركز الأهرام للنشر- عام 92- من ص94- 69) وذكر أنّ ((عبد الناصر كان ينتقد الشيوعية. وعندما تحركنا من أجل الاعداد للانقلاب ، كانت تــُساورنى أنا وعديد من ضباط الفرسان مخاوف من امكانية تدخل القوات البريطانية ضدنا، لكن عبد الناصر كان يتلقى هذه المخاوف بهدوء غريب. وعندما عبّر ثروت عكاشة عن مخاوفه من تدخل الإنجليز، كان عبد الناصر هادئـًا وقال ((إذا كان ثروت قلقان (قلق بالعربى) بلاش يشتغل. ثم سأل بغدادى : إيه أخبار على صبرى؟ كانت المرة الأولى التى أسمع فيها هذا الاسم وسألت : من هو على صبرى؟ أجاب بغدادى : إنه مدير مخابرات الطيران وهو معنا وقد أخذ بعثة فى أمريكا وهو على علاقة حسنة بالأمريكان وأنه من خلال علاقته بالملحق الجوى بالسفارة الأمريكية، سمع منه تلميحات بأنه فى حالة تحرك الجيش فإنهم سيطلبون من الإنجليز عدم التدخل إذا كانت الحركة غير شيوعية ولا تــُهدّد مصالحهم)) (121، 122) وذكر أنّ العلاقات استمرتْ مع الأمريكان ((عبْر قناتيْن تصب كل منهما عند عبد الناصر وحده : عبد المنعم أمين وعلى صبرى)) (192) ومع ملاحظة غاية فى الأهمية وهى أنّ عبد المنعم أمين انضم لحركة الضباط يوم 22يوليو52، أى قبل الانقلاب ب 24ساعة بترشيح من السفارة الأمريكية. وبعد اعتصام عمال كفر الدوار أصدر مجلس قيادة (الثورة) قرارًا بأنْ يكون عبد المنعم أمين رئيس المحكمة (العسكرية) لمحاكمة العمال. وبعد ذلك عيّـنه عبد الناصر للاشراف على وزارة الشئون الاجتماعية. وأنّ عبد المنعم أمين عيّـن سيد قطب مستشارًا له، وأنّ قطب اقترح منع قيام أى اتحاد للعمال ، وبالفعل أعدّ مشروع قانون نصّ فيه على تحريم وتجريم الاضراب. ومن حق الإدارة الفصل دون تحقيق ، أى الفصل التعسفى (204، 205) وذكر خالد محيى الدين أيضًا ((عبد الناصر كان قد رتب قبل (الثورة) علاقة مع الأمريكان عن طريق على صبرى، ومنحهم قدرًا من التطمينات أنّ (الثورة) القادمة لن تقف ضدهم. وكان كافرى يقف أمام السفراء الغربيين ويتحدث بزهو عنا (أى عن الضباط) قائلا :My boys (187، 188) 
أعتقد أنّ ما ذكرته (وهو قليل بالنسبة لحجم المراجع فى مكتبتى) يؤكد على أنّ دريفوس الأمريكى مؤلف كتاب (لعبة الشيطان) لم يكن أمينــًا عندما عقد مقارنة بين د. مصدّق وعبد الناصر، ولم يتعرّض – كأى باحث موضوعى – لتحليل : لماذا نجحتْ المخابرات الأمريكية والبريطانية فى اسقاط حكومة مصدّق ولم تنجح فى اسقط حكومة ضباط يوليو الذين استمروا – وعلى رأسهم عبد الناصر حتى بؤونه/ يونيو67 للقضاء على الجيش المصرى؟