وجوه للانقراض

عندما غادرَ القرد الغابة وما عاد يحتاج إلى ذيله للتسلق على الأشجار انكمش ذيله وقصر إلى أن اختفى وما عاد سوى ندبة في نهاية العمود الفقري في نسله الإنساني..
هكذا هي الطبيعة والحياة في انتقاء دائم وانتخاب مستمر للخواص والتكوينات والطبائع والسلوك وبما يخدم الديمومة..
المشيخات والإمارات والتشكيلات الاجتماعية تولدت وقامت لأداء وظيفة تنظيم المجتمع وعلاقاته الإنسانية والاقتصادية وتسهيل تعاملاته وعندما كان المجتمع محدودا وضيقا ويعرف الجميع والجميع.. وقامت حيثما كانت هناك تجمعات بشرية، إلى أن ظهرت الدول والحكومات وكان العقد الاجتماعي الذي يتنازل بموجبه كل فرد عن شيء من حقه مقابل ضمان حقوقه لدى الغير فاختفت، بالتدريج، سلطات الأمراء والشيوخ في المجتمعات المتمدنة الواسعة المفتوحة، والخاضعة للأنظمة والقوانين، فيما ظلت في المجتمعات الأخرى وحسب متانة وقوة وسلامة الحكومات والسلطات ومدى احترامها للأنظمة والقوانين ولمدى سعة تلك المجتمعات..
من المصادفات أن تترافق ثورة الاتصالات وعناصرها وتأثيراتها الثقافية والحضارية مع الأعاصير التي تعصف بالعراق والتي من شأنها أن تزعزع الثوابت البالية وما لا ينسجم والعصر، ومع التفكك القيمي، والتوسع الحضري والعمراني وبما وضع وجوه المشيخات والإمارات في هيئة كاريكاتيرية.. وأحيانا مأساوية، وأحيانا مقرفة.. وفي كل الحالات فقد قرع جرس نهايتها ومباشرة دور جديد، وبات عليها أن تستبدل وظيفتها إنما بضرب من الصعوبة... فالعراقي وكأي إنسان عصري بات يعتز بنفسه وبفرديته وبقوته الذاتية، وقد يتفوه بمفردات تتضمن أبعادا فلسفية بدون أن يعيها تماما من أن الانساد القوي هو الإنسان الوحيد،، ويؤكد انه لا يتعكز إلا على نفسه وإمكاناته ومواهبه لا على هذا وذاك... لا  على هذا النسب وذاك اللقب وربما كان من سوء حظ شيوخ وأمراء اليوم أن يستخدموا لغة صارت مثيرة للسخرية من حيث استغلالها الغبي لمفاهيم واعتبارات بالية.. وهي حلقة تتقدم إلى النهاية حلقات أخرى في ميادين وحقول اجتماعية أخرى.. ستتلاشى وتختفي وتغدو من سمات الماضي البليد الساذج.. ويلتفتون إليها بخجل وحرج.. لا لشيء إلا لانتهاء وقتها مع الاستمرار بالعمل بها.. وأي منظر لذيل القرد في مؤخرة إنسان اليوم؟
الأمراء والشيوخ والوجهاء كانوا كبارا وعظماء، ويظلون كذلك محط تقدير وإعجاب الناس وقبلتهم وملاذهم في بعض الظروف على أن ينتبهوا بأن الدنيا تغيرت وعيون الناس قد تفتحت وصارت ترى ولا يمكن إحالة مصائر وحيوات الناس إلى مشاريع للاستثمار والاستغلال والابتزاز وإضاعة الناس وتشتيتهم بدل جمعهم وتوحيدهم.. ولا مجال بعد للوجاهة الفارغة والباطلة.. وربما كانت الفرصة التاريخية لتلك الشخصيات أن تنطلق من ارثها ومواهبها لدور قيادي ومهمة سياسية.. فالسلطة الوحيدة المتبقية هي سلطة المحبة ومشروعية الاستثمار المفتوح فيها في الأرض والسماء