للموت أيضًا فكاهاته

أما وقد شاع الموت والقتل في دنيانا العربية والإسلامية مع الأسف في هذه الأيام، فقد حركني ذلك لأن أقف قليلا على أبواب هذا الموضوع. إننا نحاول تعزية أنفسنا وسلواها عند فقدان أعزائنا بالبكاء والعويل وأحيانا بشق الثياب والتعفر بالتراب. نخاف الموت وننظر إليه بهلع شديد. الغربيون كثيرا ما يسلون أنفسهم بالفكاهة. تراهم يجتمعون في حانة أو صالون قبل وبعد التشييع، يشربون ويسكرون ويتندرون بحكايات المتوفى وطرائفه. في آيرلندا، يجلسون حول النعش ويكشفون عن وجه الميت ويتسامرون بحكاياته، وأحيانا يستشهدون به ويسألونه وكأنه ما زال حيا. ثم يخرجون به إلى قبره في موكب تتقدمه مغنية تنشد أغاني شجية في ذكراه.
من أبواب الفكاهة الغربية الحدادية باب خاص بشواهد القبور. أنا شخصيا كثيرا ما أزور المقابر الإنجليزية، لا بحثا عن مكان مناسب لي، وإنما للتفرج على ما فيها من تماثيل وقراءة الطريف من الشواهد.
يحكى أن السيد عبد الله جبر، المواطن العراقي، فعل ما فعلته فلاحظ شاهدا يقول: «هنا يرقد جون ماكس. البقال ومدير مدرسة هرنغوي سابقا. توفي عن عمر بلغ 9 أيام». تعجّب السيد عبد الله مما قرأ. كيف ذلك؟! عمره 9 أيام وكان بقالا ومدير مدرسة أطفال! قالوا له: نحن هنا في هذه القرية نعد حياة الإنسان بالأيام التي يسعد فيها ويحقق ما يريد. بقية أيام المعاناة والضيق لا نعتبرها من حياته. إنها أيام ضائعة.
هز الرجل رأسه وعاد إلى العراق فقال لزوجته: اسمعي يا حرمة. عندما أموت اكتبوا على قبري «هنا يرقد عبد الله جبر، من بطن أمه للقبر»!
سينظر القارئ إلى هذه الحكاية كمجرد نكتة، رغم كل ما تحمله من حكمة ودلالة بالغة عند كل عراقي في هذه الأيام، بيد أن نكتة على هذا الغرار رواها الكاتب الساخر جورج برنارد شو. كان قد قرر التقاعد في الريف على عادة الإنجليز. راح يفتش عن مكان مناسب وأعياه البحث، ولكنه في آخر المطاف مر بقرية سان لورنس، شمال لندن. راح يفعل ما أفعله أنا كما قلت. انطلق يتجول في مقبرة القرية فلفت نظره فيها شاهد مرمري مكتوب عليه «هنا رفات جيمس وايلي. توفي مأسوفا عليه في عز شبابه عن 75 عاما»!
لاحظ ذلك شو فقال لنفسه إن القرية التي تعتبر 75 عاما سن شباب جديرة بأن يعيش الإنسان فيها. فقصد دلال الأملاك واشترى لنفسه البيت الظريف الذي يعتبر الآن متحفا يزوره عشاق هذا الأديب. انتقل إليه وبالفعل عاش حتى الثالثة والتسعين. ولولا أنه كسر رجله فيه لعاش إلى المائة أو لأصبح أبديا - كما قال.
كان شو آيرلندي المنبت. وقد أنجبت آيرلندا كثيرا من الظرفاء من أمثاله. كان منهم الممثل الهزلي سبايك مليغان. أوصى بأن يكتب على شاهد قبره في دبلن هذه الكلمات: «ألم أقل لكم إنني مريض ولم تصدقوني؟».