حتى لا تنكمش حدودنا البحرية البحث عن فناراتنا المفقودة |
حتى لا تنكمش حدودنا البحرية البحث عن فناراتنا المفقودة كانت أبراجنا البحرية المغروسة في قاع البحر, وفناراتنا الشامخة بقاماتها السامقة فوق مياه الخليج, تتألق بأنوارها الساطعة, فتنعكس في الفضاءات الملاحية المفتوحة من رأس البيشة في مصب شط العرب إلى رأس مسندم في مضيق هرمز, كانت هي النقاط الدالة التي تهتدي بها السفن القادمة من المرافئ البعيد في طريقها نحو موانئنا المتناثرة على ضفاف شط العرب. . فما الضير من القيام بجولة ملاحية خاطفة, نبحر فيها في مياهنا الإقليمية بهدف البحث عن أهم الفنارات العراقية المفقودة في عرض البحر منذ ما يزيد على ربع قرن, فقد بات من المؤكد إننا سنعثر عليه في مكان ما من مسطحاتنا البحرية المنكمشة للداخل, لكننا لن نستطيع أن نغير شيئا حتى بعد عثورنا عليه, خصوصا بعد أن تجاهلت الجهات المعنية كتاباتنا, ولم تعد تهتم بما نسطره هنا من حقائق تنير لنا الطريق في بحار الله الواسعة, وتعيد إلينا نفوذنا وهيبتنا الخليجية التي فرطنا بها بأيدينا. . . لا ادري متى بالضبط شيد أجدادنا أول فناراتهم البحرية على سواحل خليج البصرة. لكنها من المؤكد كانت أولى الفنارات التي عرفها الإنسان على وجه الأرض. وقد توصلت إلى هذا الاستنتاج المنطقي استنادا إلى الحقائق التاريخية, التي أثبتت أن السومريين كانوا أول من تعلم ركوب البحر, وكانوا أول من أبدعوا في صناعة السفن الكبيرة, ومن المؤكد أنهم توصلوا قبل غيرهم إلى ابتكار الفنارات والمنائر البحرية لكي يهتدوا بها إلى بر الأمان, ويستدلوا بواسطتها على الخطوط الساحلية. وكانت الفنارات العراقية المقامة على النقاط الساحلية عبارة عن أبراج خشبية عالية الارتفاع, يمكن مشاهدتها من مسافات بعيدة, تضاء ليلا بإضرام النيران عن طريق إشعال المحروقات الطبيعية, التي كانت توضع في وعاء معدني كبير, مثبت فوق كل برج. . فالحديث عن الفنارات والأبراج والمنائر الملاحية العراقية ذو شجون, ويحتاج إلى الغوص في أعماق التاريخ الملاحي لبلاد ما بين النهرين. لكننا سنكتفي هنا بالحديث عن الفنارات التي أضاءت سواحلنا, وزينت بأنوارها مياهنا الإقليمية في القرن الماضي. . كانت فناراتنا بمثابة علامات مضيئة غرست قوائمها في ذاكرتنا الملاحية, وطبعت صورتها على صفحات الخرائط الملاحية الأدميرالية, وغرست قوائمها في أعماق مياهنا الوطنية. وكانت شاهدة على سيادتنا البحرية المتأصلة في أغوار الخليج العربي, وفي مدخل خور عبد الله, ومقتربات شط العرب, وسواحل الفاو. . كانت مياهنا الإقليمية ومسطحاتنا المائية الوطنية تتحول في الليل إلى كرنفال بهيج يسر الناظرين, ويزيّن الآفاق البعيدة بالأنوار المتألقة بكل الألوان المتلألئة في الفضاءات البحرية المشبعة بعطر البحر . . فنارات متعددة الوظائف من كل صنف ونوع, تشترك في عزف سيمفونية لونية متناغمة مع متطلبات حركة السفن المتحركة في الرقعة الملاحية المفتوحة من مضيق هرمز إلى خور الزبير. . كانت أنوار الفنارات تنبعث باتجاهات محددة, وتتراقص بإيقاعات مدروسة بعناية . وكانت بألوانها, وبحزمها الضوئية, وبتكرر ومضاتها, تحمل سلسلة من المعاني والمفاهيم والتوجيهات التي لا يجيد قراءتها وفك رموزها إلا الملاح المتمرس. لكل حزمة ضوئية تطلقها الفنارات دلالات رمزية تستدل بها السفن في ضبط وجهتها وتحديد مسارها الصحيح. . فنارات ترسم على سطح الماء معالم الطريق الذي ينبغي أن تسلكه السفن, وأخرى تحدد مواقع تغيير المسار الذي سلكته السفن, وفنارات تحذيرية تؤشر المواقع المحفوفة بالمخاطر, وأخرى تعطي قراءات دقيقة لارتفاع منسوب المد والجزر, وفنارات تعطي الأذن بالحركة, وأخرى تعطي الإشارة بغلق القناة الملاحية بوجه السفن السائرة باتجاه معين, بينما تسمح للسفن السائرة في الاتجاه المعاكس بمواصلة الإبحار. . لو نظرنا إلى مواقع تلك الفنارات سنظن أنها مبعثرة في عرض البحر, أو أنها مثبتة بطريقة عشوائية على جانبي الممر الملاحي. لكنها في حقيقة الأمر وضعت في أماكن مدروسة بعناية, لا تحتمل أي خطأ. فقد تم اختيار أماكنها استنادا إلى أدق الحسابات الهندسية, والنظريات الرياضية, والقواعد الملاحية. وهكذا كانت قنواتنا البحرية مؤثثة بأحدث الفنارات المبنية وفق ارفع الأسس العلمية الصحيحة. وكانت تخضع للصيانة اليومية بإشراف فرق متخصصة في هذا المضمار. يساندها أسطول من الزوارق والسفن الخدمية المصممة لهذه الغاية. يبدأ بالسفينة (نياركوس) وينتهي بالسفينة (النسر). . تميزت الفنارات العراقية بنظامها الملاحي المتكامل , وتصاميمها الفريدة, وحسن أدائها وكفاءة عملها. وانسجامها وتناغمها مع طبيعة مسطحاتنا البحرية وممراتنا الملاحية, فانفردت قناة الروكا ROOKA CHANNEL , التي تمثل مدخل شط العرب من جهة البحر, بكثافة فناراتها التي رسمت المسارات الملاحية عبر المياه الوطنية العراقية, وأشادت بها جميع الهيئات البحرية الدولية, وشركات خطوط الشحن البحري . . أما أهم الفنارات العراقية وأكثرها شهرة فهو الفنار الذي اكتسب هويته الملاحية والسيادية من موقعه المتميز في مياه الخليج العربي, وعلى وجه التحديد عند النهاية الجنوبية لخور الخفقة, على بعد (42) ميلا بحريا إلى الجنوب من رأس البيشة, بنحو (78) كيلومترا تقريباً (الميل البحري يساوي 1852 متراً), بمعنى إن المسافة بين الخطوط الساحلية العراقية وهذا الفنار المغروس في عرض البحر تزيد على المسافة بين مركز مدينة البصرة وميناء أم قصر, وهي مسافة كبيرة كان ينبغي على الحكومات العراقية المتعاقبة أن تحرسها وتحميها وتذود بالدفاع عنها ولا تفرط بقطرة واحدة من مياهها, لكنها أهملتها وهجرتها من دون أي مبرر. . لقد حمل هذا الفنار اسم شط العرب, على الرغم من بعد المسافة الفاصلة بينهما, وكان هو الفنار الذي تعتمد عليه السفن والمراكب المتوجهة الى الموانئ العراقية والكويتية والإيرانية, كان اسمه في الخرائط الأدميرالية والمراجع البحرية: فنار شط العرب SHATT AL ARAB LIGHT VESSEL كان هذا الفنار هو الذي يرسم حدود السيادة البحرية العراقية, ويقف بشموخ في المقطع الشمالي للخليج العربي, ويحدد أقصى نقطة جنوبية من مياهنا الإقليمية. والصورة المرافقة التقطت له عام 1930 , وتشاهد في الصورة السفينة العراقية التي كانت تحمله على ظهرها, وقد كتب عليها اسمه بالحروف اللاتينية. . فالسفينة التي تحمل الفنار مطلية باللون الأحمر الغامق, ومثبته في قاع الخليج بمرساتين, ويظهر اسم شط العرب مكتوبا على جانبيها باللون الأبيض, بينما يتوسط سطحتها برجاً أسوداً بارتفاع (32) قدماً, (عشرة أمتار تقريباً), يعلوه المصباح الكبير, الذي يشع ليلا بالنور الوهاج, فينطلق من قمة البرج (الفنار) على شكل ومضات سريعة متقطعة لتنير الطريق للسفن المبحرة في الظلام الدامس. . من المفارقات العجيبة إن هذا الفنار اختفى تماما ولم يعد له أي اثر منذ ثمانينات القرن الماضي من دون أن يكترث لغيابه أحد, ومن دون أن تدرك الجهات المعنية نتائج هذا الغياب وآثاره السلبية الخطيرة على مسطحاتنا البحرية. . قبل بضعة أيام سألني الكابتن (جان لويس) عن هذا الفنار إثناء زيارته الرسمية للبصرة ممثلا للمنظمة البحرية العالمية, فقال لي: هل ظل فنار شط العرب في عرض البحر حتى يومنا هذا ؟, فقلت له: نعم, مع علمي باختفاء المنشآت البحرية الدالة عليه منذ أكثر من ربع قرن, ربما تعزا إجابتي بهذه الطريقة القاطعة إلى قناعاتي الوطنية المطلقة بثبات موقع الفنار في الذاكرة السيادية العراقية, وإيماني الراسخ بعدم التنازل عنها, وعدم التفريط به مهما كلف الأمر. . يتعين علينا أن نسارع إلى إعادة تثبيت هذا الفنار في موقعة القديم, ولا بأس من توسيع رقعتنا البحرية إلى أبعد ما يمكن, على غرار ما تفعله دول الجوار, التي انفتحت شهيتها التوسعية بالطول والعرض في حوض الخليج العربي على حساب تقهقرنا وتراجعنا وانكماشنا. . . تعود فكرة الفنارات العائمة أو السفن المنيرة إلى العصور العربية القديمة, وكان العراق من البلدان المتحضرة التي سبقت البلدان البحرية الأخرى ميدانياً في تطبيق هذه الفكرة لارشاد السفن المتوجهة الى موانئ البصرة القديمة (الأُبُلِّة) أو (أبولوجوس), و(طريدون) و(أور), وموانئ مملكة ميسان القديمة (خاراكس), و(كارخينا), وكانت تتلخص بتكليف إحدى سفنها بإضرام النيران ليلا شمال الخليج, الذي كان اسمه (خليج البصرة), أو (خليج الفرات), ثم انتقلت فكرة (السفينة الفنار) إلى القارة الأوربية عن طريق الرحلات الاسبانية والبرتغالية, وشاع استعمالها في المقتربات البحرية للموانئ البريطانية. . من نافلة القول نذكر إن انجلترا خصصت إحدى سفنها الفنارية, ووضعتها عام 1732 في عرض البحر لإرشاد السفن التجارية المتوجهة إلى موانئها في نهر التايمز, وكانت تطلق عليها اصطلاح (Lightvessel), أو (Lightship), ثم تطورت صناعتها واستعمالاتها, وأساليب تثبيتها في قاع بالبحر بواسطة المراسي المحراثية, وتم تجهيزها بالمعدات والأجهزة الالكترونية الحديثة التي تستمد طاقتها من الخلايا الشمسية, فانتشرت على نطاق واسع في معظم الموانئ والسواحل في كل القارات والجزر النائية, وهي اليوم الأكثر انتشاراً في بحار الله الواسعة. . في حين اختفت سفينتنا التي كانت تعد من أهم الملامح البحرية الحدودية لبلاد ما بين النهرين منذ العصور السومرية التي سبقت الميلاد وحتى عام 1980 بعد الميلاد, ولم يعد لها وجود في مياهنا الإقليمية, ولا على صفحات الخرائط الملاحية, ولا في المراجع البحرية, ولا في مخططات وأولويات المؤسسات العراقية المعنية بهذا الشأن, على الرغم من أهمية الحفاظ على مياهنا, وعلى الرغم من بساطة الفكرة وسهولتها, وعلى الرغم من وجود آلاف السفن الصغيرة العاطلة عن العمل والمتوقفة من عقود في أخاديد شط العرب, وعلى الرغم من وجود أكثر من متبرع عراقي بسفينته لاستعمالها لهذا الغرض, بيد ان الحال سيبقى على ما هو عليه, والأنكى من ذلك كله إن كتاباتنا التحذيرية المتكررة لم تجد نفعا, ولم يقرئها أحد. وكأننا نغني في خرابة. . .
|