الحرب والسياسة وما بينهما



تفرض بعض الحروب نفسها على مجتمعات بعينها، مثلما يجري لدينا الآن، بفعل عوامل عدة تعمل على اندلاع شرارتها؛ ولقد جاءت الحرب الدائرة مع تنظيم "داعش" نتيجة اعتيادية لسنوات من الاخفاقات، والخسارات، طالت جميع مرافق المجتمع، الذي كان يسعى الى الانعتاق من الخرائب على انقاض نظام صدام المباد، ولكنه لم ينعتق كلياً بسبب الاخفاقات التي غدت معروفة للجميع.
ان الحرب الدائرة الآن، التي انبثقت على خلفية مزيج الفشل والدمار والدموع، اصبح الشغل الشاغل للعراقيين ازاءها هو كيفية تحقيق النصر فيها، والتحرر منها، ومن تبعاتها، وبالتالي الالتحاق بركب الدول المتحضرة وبناء مجتمع سليم يرفل بالرخاء والسعادة؛ اذ ليس من المنطقي ان يتواصل مسلسل الهدم و الهلاك في الحروب الجهنمية التي يعيشها العراق، من دون ان تحسم بصورة كلية، فعلى نتائج الحرب الحالية يتوقف مصير الناس، اما تقدماً الى الامام أو انكفاءً مريراً.
في عام 1915 أي في خضم الحرب العالمية الاولى، كتب زعيم الثورة الاشتراكية في روسيا "فلاديمير لينين"، ونشر ذلك في مؤلفه "حركة شعوب الشرق الوطنية التحررية"، في جزء من مسعاه لتحويل الحرب القائمة آنذاك بين الدول الاوروبية الى حرب تخدم الشعوب، كتب يقول "اننا نقر بضرورة دراسة كل حرب على حدة دراسة تاريخية، فقد عرف التاريخ جملة من الحروب كانت تقدمية برغم الفظائع والاهوال والكوارث والعذابات، التي تنطوي عليها حتماً كل حرب، أياً كانت، بمعنى انها كانت مفيدة لتطور الانسانية وساعدت في تحطيم اشد المؤسسات ضرراً ورجعية.."، وقد دعا لينين لتحقيق ذلك الى نهضة الشعوب لمواجهة الحكومات والجهات المستبدة ودحرها.
وها هي القوة الرئيسة في هذه الحرب التي نعيشها الآن المتمثلة بتنظيم "داعش" قد افصحت عن نفسها بصورة واضحة، وتجلت السياسة في ابشع صورها؛ تمثل ذلك منذ مدة بتحطيم علائم الحضارة التي بناها العراقيون القدماء، وها هو مجتمعنا العراقي يسعى الآن لتحقيق النصر في حربه ضد قوى الارهاب وجميع التنظيمات المسلحة، وعليه قطعاً ان يهيئ نفسه لذلك، مثلما ان عليه ان يضع هدفاً واضحاً لا غموض فيه، لمرحلة ما بعد الحرب وتحقيق الانتصار، والا فلن تقوم للعراق قائمة.
لقد ورد في احد تعريفات الحرب انها "نزاع مسلح بين دولتين أو أكثر من الكيانات غير المنسجمة، الهدف منها إعادة تنظيم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج مرجوة ومصممة بنحو ذاتي"؛ وبالتأكيد فان الحرب الدائرة الآن في العراق ليست بمنأى عن تلك التوصيفات، فان جهات عدة وفي طليعتها تنظيم "داعش"، دأبت على القول، انها تريد تحقيق رؤيتها لكيفية ادارة المجتمع بأسلوب "الخلافة"، فاستماتت لأجل احداث تغيير في الجغرافيا السياسية عن طريق محاولة احتلال مناطق واسعة في العراق وسوريا والتمسك بها، ونفذت عمليات قتل وتهجير واسعة، في حين كان هدف المجتمع العراقي الذي كان يأمل من اسقاط النظام السابق، هو التوصل الى مجتمع مدني ديمقراطي مثلما كان يطمح اليه المتنورون، مجتمع يجري فيه فصل الدولة عن الدين في حين يمارس المتدينون اسوة بالآخرين، حريتهم في التعبير عن عقائدهم وعباداتهم والاحتفاء بها بأي صورة وفقاً للديمقراطية المتحققة، والسير بالمجتمع على طريق البناء السليم بعيداً عن التوترات والضغائن، الا ان التحشيد الطائفي و الديني نجم عنه انحراف المجتمع العراقي عن اهدافه الحقيقية ووجهة نموه المطلوبة؛ واتخذت الامور طابعاً تعصبياً تواءم مع تلك التوجهات غير القويمة، فانعكس ذلك بصورة دموية على الواقع العراقي، وادى الى مقتل وتشريد ملايين العراقيين و تعطيل حركة البناء والاعمار.
امامنا الآن فرصة تاريخية اخرى لن تعوض، و من الواجب عدم تضييعها، يدعمها التلاحم الذي بدا واضحاً بين طلائع الجنود العراقيين والحشد الشعبي ومسلحي العشائر، وبين سكان المدن المغتصبة، الذين اظهرت شاشات التلفاز استقبالهم للمحررين بالزغاريد والفرح والابتهاج، وهذا يدل على ان قضية الوطن واحدة فيما لو كانت الاهداف مشتركة، اذ ان الخطأ هو ذنب السياسيين في حين ان لدى الناس في كل المدن بشتى تنوعهم، اهدافهم الخاصة بهم، كنوع بشري في طليعتها تحقيق الامن والاستقرار وبناء حياة مسالمة رغيدة، بعيداً عن الحروب والتوترات، يتوحد في هذا الناس في بغداد والبصرة والعمارة وتكريت والموصل واربيل ودهوك، وغيرها.
على السياسيين الآن، اذا كانوا حريصين على الوطن والناس، ان يسعوا الى تحقيق النصر بدحر الارهاب، ومن ثم الاسراع في تشييد الدولة المدنية من منطلق ان الحكومة متغيرة والدولة باقية؛ وهو المبدأ الذي طبقته الانظمة الديمقراطية، وما جاء به العقد الاجتماعي الذي تحدث عنه المفكر، جان جاك روسو، بقوله ان "السيد ـ ويقصد به الدولة، لا يمكن أن يثقل الرعايا بأي قيد غير نافع للجماعة، حتى إنه ليس بمقدوره ان يرغب في ذلك؛ وذلك لأن من مقتضيات ناموس العقل، وناموس الطبيعة أيضاً، ألا يحدث شيء بلا سبب وليست التعهدات التي تربطنا بالهيئة الاجتماعية إلزامية إلا لأنها متقابلة، ومن طبيعتها أنها إذا ما أنُجزت فلا يمكن أن يعمل الإنسان في سبيل الآخرين من غير أن يعمل في سبيل نفسه"، هكذا يجب ان نبني دولة يكون فيها الاحترام متبادلاً، فيسعى الانسان الى خدمة الآخرين مثلما يسعى الى خدمة نفسه، لا ان يتقوقع حول ذاته واقاربه وحزبه ودينه ومذهبه ويقحمها في الحكومة والحياة العامة بقوة، ويعزل غيره، وهي الاسباب التي نتجت عنها مآسي العراق طيلة السنوات الماضية ويتوجب علينا الآن الاعتراف بخطئها، و ايقاف خطورتها؛ وبناء الدولة المرجوة التي تضع حداً للدمار ويتمتع فيها الناس بكراماتهم المتقابلة.