جنة الطاعة (*) ومأزق التخلف


الطاعة في اللغة تعني الانقياد والموافقة ، وتعني الاستسلام والخضوع ايضاً، وعكسها التمرد والثورة. وهي تعبير عن علاقة بين طرفين او اكثر ، احدهما طائع والاخر مُطاع ، ومن جهة ثانية فهي تعبير عن العلاقة بين الانسان وموضوعة الطاعة.
وتتجلى في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، في علاقة (التشابك والتضاد) بين السيد والعبد ، الوالي والرعية ، القائد والجماهير ، الاقطاعي والفلاح ، رب العمل والعامل....الخ. وفي العموم تنطوي هذه العلائق على التسلط والتبعية التي تمتاز بها المجتمعات التقليدية ، ذات الاقتصاد الطبيعي ، الزراعية عادة ، او ما قبل الزراعية، وحتى تلك المتقدمة عليها نسبياً بانتاجها للمواد الخام.
وتتجلى الطاعة في المنظور الديني ، في انقياد المخلوق الى الخالق ، خضوع الانسان ــ العبد المؤمن ــ الى تعاليم الرب المتعالي في السماء. حينما وجد نفسه عاجزاً عن ادراك الظواهر الطبيعية والاجتماعية من حوله. عجزه ذاك دفعه لاشعوريا الى الخضوع والاستسلام (الطاعة)، طلبا للحماية والعيش الآمن.
ونظراً لحاجة هذا الانسان للتواصل مع السماء لمواجهة مشكلاته اليومية ، يكون مضطراً لمخاطبتها والحصول على بركتها عبر مرجعية ما ، ( الفقيه ، رجل الدين ، خطيب المسجد او من ينوب عنه في التدين الاسلامي . وفي المسيحية ، الآباء البطاركة والاساقفة والقساوسة . وفي اليهودية ، الاحبار..الخ.) .
اي ان الطاعة كعلاقة وآلية ومفهوم ، ستتحوّل في واقع الامر من مرجعية في السماء الى مرجعية على الارض ، يجسدها الالتزام بالشرائع السماوية واتباع تعاليمها القدسية التي بلغ بها الرسل والانبياء ، وتابعيهم ، وتابعي تابعيهم . ومع تطور ، واختلاف الظروف والمراحل التاريخية ، واختلاف فهمها وطريقة النظر اليها والتعامل معها ، تعددت المرجعيات الارضية ـ الدينية ـ وتحوّلت الى ملل ونحل وشرائع ومذاهب ، لها اتباعها ، وامتدادتها الفكرية وصراعاتها الاجتماعية ، وقد اختلفت وتناقضت الى حد انكار بعضها البعض الآخر وتكفيره .
والشريعة كما وردت في المعجم ، لغةً : تعني مورد الماء ، وتعني الطريق الصحيح والمنهج الواضح القويم. واصطلاحاً هي الاحكام والتعاليم التي جاءت بها الرسالات السماوية (الاديان). وهناك من يختصر تعريف الدين ذاته ، على انه (الخضوع ، الجزاء ، الطاعة ، الحساب). وبهذا الخصوص ، فالطاعة الواعية لممارسة العقيدة الدينية ، هي خيار حر ومشروع لاي فرد ، يختلف نوعياً عن مفهوم الطاعة ، كنمط ثقافي اجتماعي يرتبط بالتكوين النفسي.

" ففي كل ديانة شريعةٌ هي وحدها واجبة الاتباع، واهلها فقط المؤمنون، وغيرهم غير مؤمنين... وفي داخل كل ديانة على حدة، حين يجعلون (المذهب) معادلاً للدين، فيصير الذين خارج المذهب خارجين عن العقيدة والدين." يوسف زيدان/ اللاهوت العربي واصول العنف الديني، ص18
وحين نقلّب صفحات من تاريخنا البعيد والقريب ، سنجده متخماً بالتناحرات الفكرية والتكفيرية المتنوعة في طابعها ، وحجمها وسعتها وتفاصيلها ، والاهم من كل ذلك مدى بشاعتها ووحشيتها ونتائجها الكارثية. وما الحاضر الذي نعيشه بتخلفه وبربريته وعنفه وارهابه ودمويته إلا امتداداً يتغّذى على بؤر الظلامة والظلام تلك ، التي تسيّدت عرش مجتمعاتنا قروناً طويلة. والاستشهاد بالامثلة على ذلك ربما يحتاج الى مجلدات.
والطاعة في التطبيق العملي ، مواقف سلوكية ، وافعال بشرية ، قصدية واعية ، ولاواعية في الحين ذاته. تشكل طقوس التعبد والتعامل مع الاخر، ركناً اساسياً فيها، وتتميز برسوخها في الوجدان الجمعي لجماعة المؤمنين ، مستمدة ذلك من رسوخ الدين ذاته ، ومتفاعلة معه على مر الازمان ، وهي في الجانب السايكولوجي ، احد مصادر الطمأنينة الداخلية للمتدين في الحياة الدنيا، وبمقدار تمسكه الصارم بها ، وإدمانه عليها ، يتمهد له السبيل الى الفردوس السماوي في الحياة الاخرى ، بديلاً تعويضياً عن جحيم حياته الواقعية على الارض.
ان فعل الطاعة ارتبط اساساً بالايمان والتدين منذ تشكل وظهور الوعي الانساني في فجر التاريخ ، بأعتباره حاجة وضرورة للفرد والمجتمع ، لضمان الانسجام والتوازن النفسي ، وتنشأ ضرورته من كونه يشكل حلاً لمأزق الانسان الوجودي في مواجهته لعسف الطبيعة واستبدادها ، ولتحديات الحياة الاجتماعية وتناقضاتها. ويتحقق ذلك عبر الولاء المباشر الى سلطة ماورائية اعلى ، هي سلطة السماء ، او غير مباشرة ، بالواسطة ، عبر رجل الدين ، كما تمت الاشارة اليه آنفاً.
وكما نعرف جميعا فقد تشكلت وتطورت في التراث الديني لليهودية والمسيحية والاسلام مرجعيات دينية ذات هيكلية تراتبية ، مهمتها الاساسية التوسط بين الخالق والمخلوق ، لادارة شؤون الرعية. وكانت تعبيراً عن رغبة وحاجة جمهور المتدينين الى التواصل المستمر مع إله السماء عبر من يمثله على الارض من بني البشر.
ومن المفيد الاشارة هنا الى ان هذا التمثيل إقتصر على الرجال فقط ، اي ان المرأة كانت مقصيةً تماماً ، وفي احسن الاحوال كانت تتمتع بدور ثانوي ، وقد كان لهذه المرجعيات عبر مراحل طويلة من التاريخ دوراً تجاوز الاطار الديني ، الى المصالح الدنيوية. وكان هذا الدور مؤثراً ، وحتى حاسماً في تكريس ثقافة الخضوع والتسلط على الصعيد الاجتماعي والفكري والسياسي. وفي ظل هذه الثقافة كانت المرأة كائناً تابعاً ، مقموعاُ ، او مملوكاً بالمعنى الضمني.
ومثّل فكر الطاعة عبر ارتباط الدين بالسياسة في التاريخ العربي الاسلامي منهلا للبنية الثقافية ، واساساً للسيكولوجية الجمعية لكافة الفئات الاجتماعية ، والمقصود بذلك الحكام والمحكومين على السواء. وساهم في خلق حالة الاذعان لسلطة فقيه السلطان ، ولعساكر الوالي وللحاكم المستبد.
بمعنى ما ، تمظهرت فكرة الطاعة متخطية جذرها الديني ، متحولة الى نمط ثقافي يتسم بالتواكلية اعتمادا على سلطة الغيب ، والخضوع والتبعية للسلطات الدينية والدنيوية. في هذا النمط الثقافي الكئيب ، المعتم ضاقت الرؤية وانعدمت فرص الحريات الفكرية ، واصيبت الحياة العقلية بالشلل، وساد الجمود الفكري ، واضطربت الشخصية الانسانية ، متخليةً عن فرادتها ، ذائبة في حضيرة القطيع.
ان عملية الاندماج بالقطيع تنطوي على جانب إيجابي مهم هو التضامن الانساني في كفاح الانسان من اجل البقاء ، ولكنه في ذات الوقت تعبير عن حالة الضعف التي عاشها الانسان ، وعن قلقه الشخصي في التعامل مع متطلبات شروطه الحياتية ــ المادية والروحية ــ بشكل مستقل.
حيث ان الدخول في مثل هذه العلاقة القهرية الاضطرارية، تؤدي ــ بالإنسان الفرد ــ الى الانكماش داخل الذات ، والرضوخ التام لارادة القطيع الجمعية ، المتماهية بارادة وسلطة القائمين على أمر الجماعة.. الرعية.. القطيع...الخ. وفي ذلك ما يديم سلطة الاستبداد ، ويفرمل حركة النشاط الذهني الانساني ، ويعطل عقل الفرد عن التفكير الحر المستقل بمصيره وبمستقبله ، ويبقيه طائعاً ، تابعاُ ، مستسلماً لوضعه "القدري"، قابعاً في دائرة العجز والتخلف.
فيما كل ما تَقَدّمَ ، يدور الحديث ، عن التجليات الفكرية ، الثقافية، والانماط الحياتية التي توارثتها الاجيال عبر مراحل متتابعة من تاريخنا السياسي الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة بحثاً عن جدلية المآلات التي تفاعلت مجتمعةً ، وقادتنا الى الارتداد عما بلغناه صعودا في سلّم الحضارة في مرحلة معينة من التاريخ ، واوصلتنا مأزق التخلف الذي نعيش اسوأ واخطر فصوله حالياً على صعيد العراق بشكل خاص وعلى صعيد البلدان العربية ، مع تداعيات ذلك ، اقليميا ودولياً بشكل عام.
ونظراً لاهمية موضوعة التخلف واشكالياتها المتعلقة بالمنطقة العربية ، وبلدان عديدة شرق اوسطية وفي اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية ، فقد تناولتها آلاف المعالجات والبحوث ، ووُضِعت بشأنها نظريات عديدة ، تبحث وتحلل جذور واسباب التخلف من جوانب مختلفة ومتعددة.
وانسجاماُ مع سياق العرض السالف ، آثرتُ اختيار اقتباساً من دراسة سايكولوجية تفترض ان "الانسان المتخلف لم يُعطَ الاهتمام نفسه الذي وجه الى البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية." وقد أورد الكاتب في مقدمته ما يلي :
"يعاش التخلف على المستوى الإنساني كنمط وجود مميز ، له دينامياته النفسية والعقلية والعلائقية النوعية. والإنسان المتخلف ، منذ ان ينشأ تبعاً لبنية اجتماعية معينة، يصبح قوة فاعلة ومؤثرة فيها. فهو يعززهذه البنية ويدعم استقرارها، بمقاومة تغييرها، نظراً لارتباطها ببنيته النفسية. العلاقة إذاً جدلية بين السبب والمسبّب (البنية والنمط الانساني الذي ينتج عنها) مما يحتّم علينا الاهتمام بهما كليهما عند بحث حالة احد المجتمعات المتخلفة، بغية وضع الخطط التنموية." (**)
وبالعودة للجانب الثقافي الاجتماعي ، فان موضوعة المرجعيات ، والولاءات المصاحبة لها ، لم تعد من الاطر الاعتقادية ذات المنحى الديني فقط ، وانما تفاعلت وتغلغلت بعمق في النسيج الاجتماعي بأكمله ، وافرزت نمطاً فكرياً قائماً على التلقين والطاعة ، وتقديس الاشخاص في البيت والمدرسة ودار العبادة ..الخ. وهكذا تتواصل النظرة التقديسية الى ميدان العمل ، وميدان الحياة العامة حيث العشيرة والطائفة ، وجمعيات النفع العام ، والاحزاب السياسية.
وفي هذا المناخ الملبد تحتجب حرية التفكيرالمستقل ، وتصبح اي محاولة للخروج عن المألوف وتبني موقفاً نقدياً من نمط الحياة الراكد عدواناً على حرمة المقدسات ، كما ان المساس بأصحاب المصالح والنفوذ في المجتمع والدولة إبتداءاً من شيخ العشيرة حتى رئيس الدولة ، يعتبر ايضاً مساساً بالمقدسات يستوجب العقاب. والمقدسات ليست دينية في كل الاحوال ، إنما اجتماعية ايضاً.
وللاستدلال لما جرت الاشارة إليه ، ففي المشهد السياسي العراقي ما بعد 2003 ، كانت ثقافة القطيع المعبرة عن ثقافة الطاعة ، حاضرة بقوة ، ومازالت في التحشيد السياسي والانتخابي ، كما تم استثمارها بدهاء ماكر في ادراة الازمات في بلدنا ، وقد ادت بدورها الى تفاقم الاوضاع الكارثية التي يعيشها المواطن العراقي اليوم. وليست داعش واخواتها الا تجلياً ونتاجاً لسيكولوجية القطيع ذاته.
ان ثقافة الطاعة تقع على الطرف النقيض من الثقافة الديمقراطية ، لانها ببساطة تعني تبعية الفرد الى مرجعية ما ، تبعية غير خاضعة للنقاش والمراجعة. تبعيته هذه تجبره على تنفيذ قرارها هي وليس قراره الشخصي وهو لا يرى في ذلك الا عين الصواب. والديمقراطية تقوم على الارادة الفردية والحرية الفردية فقط ، في التفكير وفي اتخاذ القرار.
والطاعة كثقافة وسيكولوجية اجتماعية ، لا تخص شريحة محددة من الناس دون غيرهم ، ولكن التخلي عنها وشدة ممارستها من عدمها ، تتفاوت وفقاً لامكانية ونشاط حاملي مشاعل التنوير، المؤمنين بأهمية التواصل والتفاعل مع منجزات الثقافة الانسانية العلمية والمعرفية ، والمتطلعين الى الغد الديمقراطي والعدالة الاجتماعية ، في تغيير ذواتهم في مجرى كفاحهم للتغيير الاجتماعي من حولهم ، وهي عملية تاريخية ليست سهلة على الاطلاق.
ولذا فان من اسباب تعثر الديمقراطية في عراقنا ، ان ثقافة الطاعة والولاءات والقداسات الشخصية والاجتماعية تخيم بظلالها على اوساط من مجتمع النخبة والقادة السياسيين بما فيهم من يتبنى شعار التغيير والحرية والديمقراطية. وينطبق الامر على متنفذين في منظمات وجمعيات واحزاب دينية ، طائفية ، اثنية وغيرها ، يتعاملون مع انتسابهم السياسي ، الحزبي والموقع الوظيفي ميداناً للحصول على المغانم والمكاسب الشخصية في اطار من المزاوجة بين الولاء الشخصي والتخادم صعوداً ونزولاً في هرم التسلسل السلطوي. وتحقق لهم بذلك ابتلاع ثروات البلد ، وتضخيم الفساد الى الحد الذي يوشك ابتلاع البلد نفسه.
كما ان البنية التنظيمية لاحزاب السلطة أو المعارضة على السواء ، تعاني اشكاليات الامراض الاجتماعية ذاتها ، وان بدرجات متفاوتة ، حيث تبادل المنافع هو القيمة المعيارية ، وليس التكافؤ والمساواة في الحقوق والواجبات ، وتحل الولاءات الشخصية للقائد ، ولذاته النرجسية ، بديلاً عن الاخلاص للوطن وللحزب وسياسته والدفاع عنها ، ويتحوّل الالتزام باللوائح الداخلية قضية شكلية صرفة .
اضافة الى ظاهرة الانفصام بين الادعاءات التقدمية والديمقراطية على مستوى التصريحات والنشر ، وممارسات التعالي الموهوم و البيروقراطية والتسلطية على مستوى الفعل والسلوك. وهذا ما يجسد على صعيد الواقع الملموس صوراً عينية مُعاشة ، ومعبرة بجلاء عن مأزق التخلف ، الذي يشدنا إلية بقوة ، ونسعى جاهدين بدورنا للفكاك من اسره.
ولكن السؤال يبقى ، متى وكيف ؟؟؟.

(*) التعبير استعارة من رواية الكاتب البحريني الراحل عبدالله خليفة "عثمان بن عفان شهيداً"
(**) د. مصطفى حجازي/ التخلف الاجتماعي/ ط9/ 2005/ الناشر: المركز الثقافي العربي/ المغرب، بيروت