اصلاح التعليم العالي قضية لا تحتمل التأجيل

قضية اصلاح التعليم العالي في العراق هي باعتقادي القضية الأهم كي ننتقل من واقع راكد الى حالة حركية تضمن استعدادا لمواجهة التحديات المتزايدة التعقيد. ففي مواجهة المشكلات الملحة المتعلقة بأمن البلاد والأخطار الجديدة الناشئة عن تفاقم الصراع الاجتماعي والسياسي وانعدام الاستقرار، وتعثر الاقتصاد، يلزم ان يتحلى التعليم العالي بقابلية وبمرونة كافية كي يتمكن من توفير الاختصاصات التي يحتاجها الاقتصاد والمجتمع في القرن الواحد والعشرين، وان يمتلك قدرة على التأثير في الحياة الاجتماعية وبتجديد الاخلاق ونشر الفضيلة، وان يواكب الظروف العالمية التي لا تكف عن التغير. وعملية الاصلاح هذه يجب ان تكون عملية شاملة مبنية على قناعة كاملة، ومنفتحة على ثقافة العصر، ومتطلبات مجتمع المعرفة تتولى زمامها الدولة، ويتسنى فيها من خلال تحديد اولويات واضحة واعتماد ممارسات متطورة لخدمة الاقتصاد والمجتمع وبصورة تتسم بالامتياز وبالفعالية والكفاءة والموضوعية والشفافية، ولابد ان تتم بالية تنفيذية مقتدرة وفقا لجدول زمني محدد لتكون علامة فارقة بين التأخر والتقدم.

التعليم العالي يعاني من نقاط ضعف رئيسية اربعة هي:
1- غياب رؤية شاملة، وخطة شاملة.
2- تدهور النوعية، وتغليب الكم على النوع.
3- مركزية ادارية معيقة، وتنظيم اكاديمي مشتت للطاقات والأموال.
4- ركود مزمن وضعف في تأمين حاجات الاقتصاد والمجتمع والتنمية.

ولمعالجة نقاط الضعف هذه تتركز عملية الاصلاح على رؤية وتوجهات هدفها:
1- توسيع وتعزيز مهارات الطلاب لتأمين فرص عمل ملائمة.
2- وضع التعليم العالي في خدمة التنمية والقضاء على التخلف الاقتصادي والمعرفي.
3- بناء الانسان الحضاري المتمدن المشبع بمبادئ الولاء للوطن والحرية، ونكران الذات، والمدرب على التثقيف الذاتي بالإضافة الى التحصيل العلمي الملائم.

وستتابع السياسات الناتجة عن عملية الاصلاح تنفيذ دورين اساسيين من إستراتيجية تنموية تأخذ على عاتقها:
1- رفع مستوى معيشة الناس وتحسين حالتهم الصحية والاقتصادية والبيئية.
2- دفع عجلة التقدم التكنولوجي والإنتاج المحلي العراقي وقدرته التنافسية العالمية.

بناء على ما جاء اعلاه فأن غرض عملية الاصلاح سيكون:
1- ترشيد سياسة التعليم العالي وتحسين فعاليته الداخلية والخارجية وتحقيق الاستخدام الامثل للمصادر وترشيد الصرفيات وتعظيم الموارد المالية.
2- تحسين جودة التعليم ورفع مستوى مخرجات التعلم وزيادة الاهمية الاجتماعية للوظائف التنموية للتعليم العالي.
3- زيادة نسبة الطلبة المقبولين في التعليم الفني والتقني.
4- توسيع اطار اللامركزية وصولا الى تحقيق استقلالية الجامعات المالية والأكاديمية.

اما الحاجة الى اصلاح شامل للتعليم العالي في العراق فيبررها تفاقم الازمة داخل النظام التعليمي والتي تبرز معالمها في المظاهر التالية:

1- الافراط في انتاج الخريجين ضعيفي التدريب.
2- زيادة البطالة والبطالة المقنعة بين الخريجين.
3- ضعف الدوافع العلمية والأكاديمية عند الطالب.
4- ضعف البيئة الاكاديمية المفضية للتعليم والتعلم.
5- الافراط في التركيز على انماط التعليم التقليدية والتوسع في التعليم النظري على حساب التعليم التقني والفني.
6- ضعف الامكانيات وفقر البنية التحتية والمرافق الاكاديمية وهزالة التخصيصات المالية للبحث العلمي.
7- انعدام روح المبادرة والحوافز نحو التجريب والتغيير.
8- هيمنة عقلية الحصار التي تقف حجر عثرة امام الاستفادة من كفاءات الخارج او من العقول المتوفرة في الدول الغربية.
9- عزلة التدريسي والطالب عن العالم والناتجة عن ضعف المخاطبة باللغات الاجنبية وخصوصا اللغة الانكليزية.
10- زيادة الاضطرابات و حدة الخوف وتدهور المعايير ومعنويات التدريسيين وانعدام الثقة بين الادارة والتدريسي.

هذه الاسباب وغيرها تؤكد على ضرورة الاصلاح طالما ان النظام الجامعي التقليدي لم يمر بمراجعة حقيقية أو تغيير جذري منذ ان حل على هذه البلاد مع نشوء الدولة العراقية الحديثة. تخلف نظام التعليم العالي وعدم كفاءته يؤكد الحاجة الى تغيير جذري واصلاح شامل، لا الاصلاح السطحي الذي لا يقتلع جذور تخلف التعليم. وطالما تتردد الحكومة في اعتماد سياسة طويلة الأجل في هذا الصدد، سيبقى التعليم العالي في العراق في فترة ركود بائسة ومستقبله مجهول. النظام الجامعي العراقي نظام جامد للغاية ونظام مقاوم للتغيير، والدافع للتغيير لا يأتي من داخل هذا النظام حيث كثير من الفعاليات الادارية والأكاديمية تشبه الطقوس البدائية غير القابلة للتطوير، على سبيل المثال الهيكلية الادارية للأقسام والعمادات ونظام الترقية والمكافآت، وطرق التدريس التقليدية ومشاريع التخرج والامتحانات وبيئة الجامعة التي لا تختلف كثيرا عن بيئة المدارس الثانوية. هناك ثورة عالمية في مجال التعليم العالي نحن لازلنا بعيدين عنها، حيث تشهد العديد من الدول سواء المتطورة منها او النامية تحولات مهمة في انظمتها الجامعية، وان كانت سرعة التغيير تختلف من دولة لأخرى، لدرجة ان الجامعات بدأت بالاندماج ببعضها لترشيد الصرف المالي، وتعظيم مخارج التعلم ولاستيعاب اكبر عدد من الطلاب المتميزين.

آليات الاصلاح ستضمن طرقا وأساليباً لملء الفراغ الناجم عن شلل النظام الجامعي التقليدي وذلك عن طريق مبادرات تنظيم المشاريع الخاصة، والابتكارات والتجارب التعليمية والتصدي للمشكلات المجتمعية القائمة، والتي هي اليوم حالة معتادة في الجامعات العالمية كجزء من فعاليات التدريسي لا يبغي منها جزاء ولا شكورا. لن يكون غرض هذه المبادرات الحصول على الترقية والمكافآت وليس لدوافع ذاتية محضة، وإنما لكون الجامعة ومستقبلها مرهون بأداء اعضاء هيئة تدريسها. وفي ضوء التوسع السريع والتنوع في المعرفة والمهارات، فإن هناك مجالا هائلا للابتكارات التعليمية والمبادرات والتي هي ضرورية لتطوير التعليم الجامعي في ضوء عجز نظام التعليم الاهلي في اخذ السبق في هذا المجال وبقائه متخلفا يسعى الى خداع الطلبة الباحثين عن شهادة وأية شهادة كانت.
الاصلاح سيحتم علينا هجرة كثير من افكار الماضي وتحديث معظم المناهج بما فيه ادخال تعديلات وتحويلات وتفكيك الاساليب التربوية والمنظومات الفكرية القديمة ونبذ المناهج التلقينية والنقلية، ومقاومة التوترات والفتن الطائفية والمزايدات السياسية على الدين، وإعادة الدرس النقدي والمنهجي للأفكار في الدراسات الانسانية والتاريخية. سيلقي هذا التوجه التجديدي مهمة عظيمة على عاتق الجامعة ألا وهي نقل الصراع من على الهوية الطائفية والتقاليد والممارسات الدينية الاصولية والسلفية الى صراع على الهوية العراقية، ومعالجة مظاهر الفساد الاداري وعدم الكفاءة المهنية والاكاديمية على نحو يسمح ببعض التصحيحات والإجراءات الفعالة لها. الا اننا لا ننوه فقط، بل و نؤكد ان اصلاح التعليم العالي لن يؤدي هدفه في استبدال التفكير الماضوي بالتفكير العلمي الحديث ما لم يتغير المجتمع العراقي ويقبر الصراع والكراهية التي تسود بين الجماعات والطوائف والقوميات. فهل من الممكن ان يتغير المجتمع وفيه لا زال السياسيون يسعون الى الظفر بالمناصب والاموال، والموظفون يطلبون ثمنا (رشوة) من المراجعين لتمشية معاملاتهم، ورجال الدين يفتون ويتدخلون في كل صغيرة وكبيرة بما تهم او لا تهم الناس. الواقع يظهر انه لم يتغير شيء الآن، فهل نأمل بامكانية التغيير في المستقبل؟

إن من اهم الاسباب وراء ضعف التعليم العالي والانفصام بينه وبين حاجات المجتمع العصري هو عدم الاهتمام بالجوانب التربوية والثقافية والوجدانية للتعليم، اي بمعنى تثقيف المتعلمين من اطباء ومهندسين ومدرسين وغيرهم. التعليم العالي في الوقت الحاضر يهتم بالتركيز على دروس الاختصاص المهني والمعرفي ويهمل السلوكيات واخلاقيات المهنة والقيم، كالأمانة واحترام الآخر والدقة والانتماء للوطن والصراحة والتسامح والمحبة والشفافية والحوار. القيم وأخلاقيات المهنة والجوانب الوجدانية لابد ان تسير جنبا الى جنب التدريب المهني وتدريس الاختصاص، خصوصا في وقت نرى فيه انحرافات اخلاقية كثيرة وخطيرة من قبل اطباء ومهندسين ومعلمين وغيرهم بحيث افقدت ثقة الناس بحامل الشهادة الجامعية. وخلاصة القول، لا ضرورة للإصلاح ولا ضرورة لجودة التعليم اذا لم ترتبط هذه المهمات بترسيخ وتفعيل الجوانب الوجدانية والاخلاقية عند الطالب وباستعداده للالتزام بمعايير اخلاقيات المهنة (Professional Ethics).

وأخيراً، لا شك أن إصلاح التعليم العالي هو أمر ممكن، وهو بالتأكيد سيدفع الجامعات لتصبح مؤسسات أكثر مرونة في هياكلها، وأكثر مساواة وعدالة في القبول، واكثر استجابة لاحتياجات سوق العمل والمجتمع العراقي، واكثر جودة في التعليم والبحث. ولكن مثل هذه التغييرات لن تحدت إلا اذا اردنا بالفعل تحقيق التجديد الاكاديمي والعلمي والثقافي داخل الجامعات، وفي داخل سياق اجتماعي أوسع. وليس من قبيل المقارنة أن نذكر بأن التغيير الأكثر جذرية في الجامعات العالمية يحدث في وقت التغيير الاجتماعي والسياسي الراديكالي لمجتمعاتها. أليس مجتمعنا ووطننا يمر اليوم بأخطر الازمات الاجتماعية؟ لم يعد يحتمل التأجيل او التراخي فمستقبل الجامعات كله على المحك، و(الشك) اصبح كبيرا بحيث لم يعد للترقيع فائدة ونحتاج الى استبدال البدلة.