العراق تايمز:
بدا كل شيء متوترا في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، حتى الزمن توتر ولم يعد في صالح أحد، فما سمي بـ«ثورة تموز» 1958 لم يخلف سوى القتل والجراح والحزن والمآسي، وحتى اليوم يتحدث كبار السن من العراقيين فيقولون إن كل المآسي التي تحدث في البلد هي عقوبة للعراقيين الذين لم يتوانوا عن ذبح العائلة المالكة ورئيس الحكومة نوري السعيد مع نجله.
ومع مجيء قاسم (الزعيم الأوحد) و(الابن البار) وتعالي أصوات مؤيديه في محكمة المهداوي (محكمة الشعب) وهم يحملون الحبال ويصرخون «اعدم..عبد الكريم اعدم»، حتى تحول المشهد العراقي إلى ساحات من الاقتتال والتناحر في الموصل والجنوب والوسط، حتى الزعيم نفسه، العسكري القلق الذي لم تكن له تجربة في السياسة كان متوترا لا يعرف كيف يقود السفينة، فمرة يقرب الشيوعيين ومرة يبعد القوميين، ومرة يناصر الأكراد ويستقبل زعيم ثورتهم ملا مصطفى بارزاني، ومرة يرسل طائراته المقاتلة لتقصف مدنهم وقراهم وتقتل الأبرياء، ويسجل التاريخ العراقي أن أول حكومة جمهورية كان الأكراد ينتظرونها هي التي دشنت عصر حرب الحكومات العراقية ضد أكراد العراق، وسارت بقية الحكومات على النهج الدموي ذاته.
لم تحقق العمليات العسكرية التي شنها عبد الكريم قاسم ضد الأكراد أية نتائج، بل على العكس كان مقاتلو البيشمركة هم من ينتصر في المعارك وفي حرب العصابات التي كانوا يشنونها على مواقع الجيش العراقي، وغالبا ما كان الجنود يعودون بعد أسرهم من قبل المقاتلين الأكراد ليتحدثوا في بقية المدن العراقية عن أسرهم والتعامل الإنساني الذي أبداه الأكراد معهم حتى إعادتهم إلى عوائلهم، وكان العراقيون يطلقون على هذا القتال اسم (حرب الشمال)، بينما كانت التسمية الرسمية العراقية للأكراد هي المتمردين. وظهر اسم ملا مصطفى بارزاني باعتباره زعيما قوميا وأنه لا يريد مقاتلة أبناء شعبه من العراقيين.
في فبراير (شباط) اتفق البعثيون مع عبد السلام عارف، الذي شارك قاسم انقلاب 14 يوليو (تموز)، والذي اختلف مع رفيق سلاحه بسبب ادعائه بأنه هو من خطط وقاد الثورة بينما سرق قاسم جهوده، وعلى إثر خلافات طويلة عزله قاسم واعتقله ثم أبقاه تحت الإقامة الجبرية ولم يعدمه، لهذا اتفق، عارف، مع البعثيين على انقلاب أطاح بقاسم في فبراير (شباط) 1963، حيث أعدم قادة الانقلاب من البعثيين رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم في أحد استوديوهات الإذاعة العراقية في الصالحية.
كان النظام الجديد الذي ترأسه عارف، بينما ترأس الحكومة أحمد حسن البكر، بحاجة إلى أخذ نفس والاستقرار لتركيز حكمهم، وكانت عمليات الشمال أو مقاتلة الأكراد ستكلفهم الكثير لو قرروا الاستمرار فيها، لهذا لجأوا إلى هدنة مفاوضات، يتحدث عنها طالباني باعتباره كان رئيسا للوفد الكردي المفاوض مع الحكومة، فيقول «بعد مؤامرة شباط 1963 والتي سيطر فيها عبد السلام عارف والبعثيون على السلطة بعد إعدامهم لقاسم، جرت مفاوضات بيننا وبين حكومة عارف، أرسلت من قبل بارزاني والمكتب السياسي، وكان كلاهما يثق بي، إلى بغداد لإجراء مفاوضات مع النظام الجديد، وذهبنا إلى بغداد أنا وصالح اليوسفي، وخصصت لنا الحكومة السكن في فندق بغداد الذي كان من أشهر الفنادق العراقية وقتذاك، وفي الليل زارنا رئيس أركان الجيش الفريق طاهر يحيى، فسألني عن مطالبنا فقلت: نحن على نفس الاتفاق السابق، حيث كان هناك اتفاق قبل إسقاط قاسم عبر الرسائل بين قادة النظام الجديد وبين إبراهيم أحمد، ومفاده أن يعترفوا بالحكم الذاتي للأكراد بعد إسقاط النظام الديكتاتوري، فقال: هذا جيد. في اليوم التالي التقيت برئيس الجمهورية عبد السلام عارف ورئيس الوزراء أحمد حسن البكر، ووزير الدفاع صالح مهدي عماش ونائب رئيس الوزراء وزير الداخلية علي صالح السعدي، وحازم جواد الذي كان وقتذاك وزير الخارجية وكالة. أما الوفد الكردي فقد كان برئاستي وعضوية صالح اليوسفي والشيخ بابا الشيخ علي محمود (كان وزيرا)، وفؤاد عارف (كان وزيرا) ومحمد سعيد خطاب، وآخرين، وفي اللقاء الأول تحدثنا عن الحكم الذاتي وقال البعثيون: نحن نوافق من حيث المبدأ على الحكم الذاتي لكننا نريد مهلة من الوقت. كان عماش هو من طلب المهلة، لكن البكر قال: نحن نخاف من الرئيس جمال عبد الناصر (الرئيس المصري الأسبق) ربما يقول إننا سنجزئ العراق ونقسم الوطن العربي إذا أعطيناكم الحكم الذاتي. وكان الوفد العراقي متهيئا للسفر إلى القاهرة للمشاركة في احتفال الوحدة بين مصر وسورية في 22 فبراير (شباط)، فاقترحوا علينا السفر معهم حتى يكسبوا عبد الناصر إلى جانبهم، وقد لا يوافق على مطالبنا حول الحكم الذاتي، فسافرنا أنا وفؤاد عارف معهم».
ويدلي هنا طالباني بمعلومة مهمة عن البعثيين، فيقول «دعني أقل لك شيئا مهما، وقد يكون هذا الرأي الذي سأقوله غريبا عما تسمعه عن البعثيين، وهو أن حزب البعث لم يكن وقتذاك قد قرر محاربة الشعب الكردي، وكان مقررا من قبلهم أن يعطونا بعض الحقوق، وإذا لم نوافق عليها فإنهم سوف يحاربوننا، ولو رجعنا إلى كتاب عن (القضية الكردية في العراق) تأليف الدكتور جمال الأتاسي، يقول في مقدمته، أنه (عندما جاء علي صالح السعدي إلى دمشق سألناه عن الأكراد في العراق، وقال نعم صارت بيننا بعض اللقاءات ونحن أعطيناهم بعض الوعود، والآن سننفذ لهم بعض الوعود وإذا لم يستجيبوا فسوف نقضي عليهم بسرعة) حتى أني سمعت آراء مختلفة في بغداد عن القضية الكردية، ففي رحلتنا الجوية من بغداد إلى القاهرة كنت أجلس في الخلف وجاء السعدي ليجلس إلى جانبي، وسألني عن أوضاع الأكراد، ثم قال لي: نحن حزب البعث، حزب اشتراكي نؤمن بحقوق الشعوب والقوميات، بل نؤمن بحق الشعب الكردي حتى بحقه في تقرير مصيره، ولكن نريد أن نسلم هذا الحق إلى قوى تقدمية كردستانية، وأن يكون ذلك في الظرف المناسب. ثم عقب قائلا: أنتم الآن ترتكبون خطأ كبيرا بإيوائكم للشيوعيين وحمايتهم وكذلك الهاربين من وجه القانون وهذا موقف معاد من الثورة. فقلت له: نحن عندنا التزامات أخلاقية تجاه الشيوعيين، ومثلما كنا معكم في فترة المعارضة، فقال: لنتحدث عن هذا الموضوع فيما بعد. وقد أعطاني السعدي انطباعات بأنهم حتى ضد قتل الشيوعيين، حيث قال لي: عندنا عدد من القادة الشيوعيين المعتقلين. وأنا ما كنت أعرف هذا، مثل سلام عادل وغيره، وأضاف (السعدي) قائلا: ونحن الآن نجري معهم مفاوضات للوصول إلى نتائج. ولو قرأنا كتاب هاني الهندي (مؤلف كتاب حركة القوميين العرب) سنعرف كيف أن العسكر باغتوا السياسيين وقتلوا قادة الحزب الشيوعي العراقي من غير أن يسمحوا باستكمال المفاوضات».
ويستطرد الرئيس طالباني «أما حازم جواد، أطال الله في عمره، فقد كان رئيسا للوفد العراقي المفاوض، التقيناه في وزارة الخارجية، وقال لنا: نحن كاشتراكيين تقدميين نعترف بحق الشعب الكردي بتقرير مصيره وبما في ذلك حق الاستقلال، ونعتقد بأن الحل النهائي للقضية الكردية هو بوجود كردستان اشتراكية مستقلة، هذا هو رأينا، لكننا يجب أن نبحث في الظروف التي تساعدنا وإلى أي مدى ستساعدنا، هذا ما نريد أن نبحثه معكم، فأجبته: إننا راضون أن تمنحونا نصف ما تحدثتم به وهو الحكم الذاتي وليس الاستقلال. وكان إيجابيا كثيرا وترسخ في ذهني انطباع جيد عن هذا الرجل باعتباره إنسانا تقدميا وغير شوفيني ومنطقيا، حتى إننا ارتبطنا بصداقة استمرت حتى عندما استلم البعث السلطة ثانية (بعد 1968)، إذ كان غالبا ما يقول لي بأن نهتم بالحوار مع صدام حسين كونه أهم شخص في الدولة والحزب، وأن ما يقرره صدام هو الذي ينفذ.
كما استمرت علاقتنا بعد خروجه من العراق وكنا نلتقي عندما كنا في المعارضة في لندن وكان متعاطفا معنا». ويتابع الرئيس طالباني «وسأكشف لك سرا عن حازم جواد، ففي إحدى المرات وبعد المرحلة الثانية من الثورة الكردية حيث كان وضعنا سيئا، التقيت به في منزل عمر مصطفى ببغداد فأخذني إلى المطبخ وكنا لوحدنا فأعطاني عشرة آلاف دولار، وقال: والله هذا من مالي الحلال وأنا لست بحاجة إليها مثلما أنتم في الثورة الكردية بحاجة لها فأرجوك خذها مني كدعم لثورتكم. وأنا منذ زمن أبحث عنه وأتمنى أن تنشروا ذلك في جريدتكم عسى أن نتوفق في لقائه وتحيته». كان الخطأ الكبير الذي وقعت فيه الحكومة الجديدة هو دعوة طالباني لمرافقتها للقاء الرئيس المصري جمال عبد الناصر، إذ كان هذا المقترح يهدف إلى خلق عداء بين عبد الناصر وطالباني كون البعثيين اعتقدوا وقتذاك بأن الرئيس المصري، زعيم القومية العربية لن يسمح للأكراد بالحكم الذاتي وسيعتبر ذلك تفتيتا للأراضي العربية، وما إلى ذلك، لكن تأتي الرياح على عكس ما اشتهت سفن الحكومة العارفية ـ البعثية، ويقول طالباني «في القاهرة استقبلنا عبد الناصر كوفد عراقي لكننا، أنا وفؤاد عارف طلبنا أن نلتقي به بصورة خاصة ووافق واستقبلنا، وإذا تشاهد صورتي مع عبد الناصر سوف تجدني بالزي الكردي، وهذا ليس لأنني متشبث بالزي الكردي وانطلاقا من نظرة قومية، لا، وإنما عندما وصلت إلى بغداد ليلة 18 فبراير (شباط) كنت قد جئت من السليمانية بملابسي ولم يكن لدي ببغداد بدلة اعتيادية (ملابس مال أفندية)، ولم يتح لي الوقت في بغداد لأن أخيط بدلة اعتيادية لهذا سافرت بملابسي الكردية..
|