البحث عن الخطوط التي تساعدنا على رؤية مصالحنا |
إن المعلومات الكثيرة التي نتلقاها أكبر بكثير من قدرتنا على تحليلها وإصدار قرارات صحيحة بشأن مصالحنا من مختلف الأمور، وأين يجب أن نقف ومع من. لذلك نبحث عن القواعد العامة التي تساعدنا على الرؤية ولتمييز الأعداء عن الأصدقاء، والعدوانيين من اللطفاء والأغبياء من الأذكياء على سبيل الأمثلة. يفترض أن تبين تلك القواعد "الخطوط" الفاصلة بين حالتين يهمنا أن نميزهما عن بعضهما. فإن اكتشفنا مثلا أن اصحاب الشعر الأسود لطفاء وأصحاب الشعر الأصفر لؤماء، فستكون لدينا قاعدة عظيمة تغنينا عن حفظ المعلومات وتحليلها لكل شخص على حدة إذ تكفينا عندها نظرة واحدة إلى رأس ذلك الشخص! فلون الشعر هو "الخط" الفاصل الذي سيميز لنا صديقنا من عدونا، وكل أعداءنا سيقعون خلف ذلك الخط، بينما يقع اصدقاءنا على الجانب الآخر منه.
أما إن وجدنا أن بعض أصدقاءنا وبعض عداءنا يقعون في كل من جانبي الخط، فأن هذا الخط لا ينفعنا بشيء ولا يساعدنا على التمييز، ويجب أن نبحث عن خط آخر لهذه المهمة. وإن أخطأنا في القاعدة فأنها تتحول إلى معوق لنا في الوصول إلى القرار الصحيح، وقد يمثل ذلك خطرا علينا احياناً. وهذا يعني أن على كل منا أن يراجع بشكل مستمر تلك القواعد التي اكتشفها أو أخبره بها أحد.
توزيع الهيئات المستقلة كمثال لفحص فائدة تقسيماتنا
لنناقش الموضوع أعلاه بالإستعانة بمثال من الأخبار الحديثة ولنستعمله لفحص جودة مفاهيمنا التي نستعملها لتقسيم العالم وتبسيطه، وإن كانت تعمل بشكل جيد وتقوم بواجبها في تبسيط الأمور وتساعد على الرؤية واتخاذ القرارات الصحيحة، والمثال سيكون عن المناقشة التي جرت حول خبر تقسيم "الهيئات المستقلة" على "المكونات" العراقية، وهل نستطيع أن نحدد مصالحنا في هذا التوزيع بالإستعانة بتلك التعابير. هذه المقالة ليست درساً في الوعض على نبذ الطائفية والمحاصصة، ولا تقصد اتهاماً بالطائفية لمن تم الإشارة إليهم بالأمثلة، وإنما مراجعة لطريقتنا في تحديد مصالحنا، حتى بشكل فردي وذاتي.
لنقرأ أولاً هذا الخبر الذي سبق التقسيم: "قال القيادي في كتلة المواطن فادي الشمري أن “البيت السياسي الشيعي" ....سيطرح توصياته على باقي القوى “السّنية” و “الكردية” من أجل الاتفاق على صيغة توافقية ترضي جميع الاطراف” من جانبه افاد النائب عن القوى العراقية صلاح:حصلت “الاحزاب السّنية” على تطمينات من الحكومة بأنها ستنال حصتها بما يتناسب مع حجم “المكون” في المجتمع العراقي.(1)
ولننظر إلى خلل هذه العبارة، فمن يقول أن كل سني يتفق مع "الأحزاب السنية" في موقفها؟ ألا يحق له أن يرى حزباً شيعياً أو علمانياً ممثلاً له ولا يحق للشيعي أن يرى في حزب سني من يمثله؟ “فما هو الداعي اذن الى الانتخابات اذا كنا نعمل على تقسيم الوزارات والمؤسسات بين المكونات"، كما يقول باقر شاكر(2)
وعندما تم الإتفاق وتوزيع الهيئات استمر الخطاب ذاته في نقل النتائج. فقال النائب مسعود حيدر عن "التغيير" أن "المكون الشيعي" حصل على رئاسة 10 هيئات مستقلة ....و أن "المكون السني" حصل على رئاسة ست هيئات ....أما "المكون الكردي" فكانت حصته رئاسة خمس هيئات ...". وقالت عضو ائتلاف دولة القانون، النائب ابتسام الهلالي بأن توزيع الهيئات المستقلة يأتي "لاعادة التوازن بين “المكونات” في المؤسسات الحكومية".(3) وينقل النائب عن ائتلاف دولة القانون حسين المالكي النتيجة بنفس الطريقة فيقول ان المكون الشيعي حصل على كذا ....، فيما حصل المكون السني على كذا......واضاف ان المكون الكردي حصل على.... (4)
ويرى الكاتب أياد السماوي أنها كانت “نكبة وطنية” لأن "شيعة السلطة" أضاعوا رئاسة الهيئات الثلاث المهمة، ويحتسب باسم العوادي "نسبة الشيعة" من خلال ما حصلوا على الهيئت فيحتج أنه "حسب توزيع الهيئات المستقلة الشيعة أقلية!" (5) وكتبت د. حنان الفتلاوي محتجة على الـ "قسمة الضيزى" بين المكونات وحسبت أن ٦٥٪يأخذون (١٠) هيئات و ٣٥٪نائب يأخذون (١١) هيئة! (6)
هل خطوط "المكونات" تساعدنا على الرؤية والتوقع السليم؟
موضوع الهيئات التي قسمت بين "المكونات" ترينا أن أحداً ما قد قدم لنا عبارات وخطوط ووضع الفواصل على الخارطة ليبسط الصورة لنا بثلاث حقول أسماها "المكون الشيعي" و "المكون السني" و "المكون الكردي". وحسب هذه الخارطة، فمن كان سنياً فأن مصلحته في "المكون السني" وعليه أن يعمل على تقويته وتوسيع مساحته في السلطة، فكل "هيئة" او سلطة إضافية قبل خط "المكون السني" ستكون في صالحه، وكل سلطة خلف خط "المكون السني" ليست كذلك، وكذلك الأمر بالنسبة للشيعي والكردي وغيرهما.
هل تؤيد التحليلات أن هذه التقسيمات تساعدنا حقاً على الإجابة عن الأسئلة الخاصة بالموضوع؟ يسأل سني نفسه مثلاً: هل حقاً أن من مصلحتي أن تكون هيئة المساءلة والعدالة لدى من يسمى ممثلاً لـ "المكون السني"؟ وقد يسأل شخص شيعي: "هل يعني أن تكون رئاسة الحكومة من "المكون الشيعي" شيئاً بالنسبة لي ؟" الخ.. ما الذي أنتظره أنا السني من حصول ممثلي "المكون السني" على عدد اكبر من الهيئات، ومنها الخطيرة مثل هيئة المساءلة؟ هل أنتظر من ذلك أن تحل مشاكلي مثل مشكلة البطالة في المناطق السنية، أو انخفاض الأمان والتعرض للإبتزاز؟ لا طبعاً فمن الواضح أن الصراع من أجل السيطرة على هذه الهيئة بين "الممثلين للمكونات"، يدور حول موضوع آخر تماماً هو إعادة أكبر عدد ممكن من كبار ضباط الجيش الصدامي إلى مناصب قيادية عسكرية وأمنية والسماح لحزب البعث بالمشاركة علناً في السلطة، فما الذي أستفيده أنا الذي لا تمثل هذه أهدافاً لي من حصول ما يسمى "المكون السني" على تلك الهيئات؟ لاشيء! إذن ما الذي يقسمه هذا الخط هنا؟
وبالمقابل ما الذي يعنيه حصول "المكون الشيعي" على رئاسة "هيئة المساءلة"؟ هل يضمن ذلك منع عودة البعث والصداميين إلى السلطة مثلاً؟ ليس بالضرورة! فالمجلس الأعلى يبدو متحمساً لإعادتهم إلى السلطة، ومقتدى يبدو حائراً في كيف يراوغ في كلامه للوصول إلى نفس الهدف، ورئيس الحكومة الذي هو من "المكون الشيعي" جاء إلى السلطة حاملا مشروعاً لجيش يشترط أن يعين فيه كبار الضباط الصداميين المشمولين بالإستبعاد بالقانون، وبرتب أعلى من رتبهم، تقديراً لهم! فأية جهة من هذه الجهات التي تمثل "المكون الشيعي" يمكن أن يطمئن المواطن "الشيعي" على موقفه ومصالحه حين توضع هيئة المساءلة بيد "المكون الشيعي"؟ إذن خط "المكون الشيعي" لم يخدم هذا الشيعي في تمييز مصالحه عن غيرها.
وفي "المكون الكردي" دعوات تكاد تكون صريحة، وأكثر منها تصرفات واضحة تعمل على إعادة الصداميين إلى السلطة، فهل يريد المواطن الكردي ذلك؟ وإن لم يرد، فما سيكون مبرر سعادته إن حصل "المكون الكردي" على هذه الهيئة مثلاً؟
إننا لا نجد تلك الخطوط المتمثلة بـ "المكونات"، مساعدة لنا في رؤية مصالحنا في هذا الأمر، بل تبدو على العكس ، توحي لنا بتوقعات هي العكس مما ينتظر في الواقع. فعبارة "المكون الشيعي" توحي لنا بتوقعات تختلف عما يقوله لنا التفكير المتأني الذي يبحث في التفاصيل.
ومثلما لا تساعدنا هذه المفاهيم على توقع النتائج، فإنها تضللنا أيضاً عندما نحاول “تفسير” ما يحدث. فكمثال آخر للضياع الذي تضعنا فيه هذه الخطوط غير المناسبة، لاحظوا أن أفراد "المكون الشيعي" المنزعجين من إعطاء هيئة المسائلة إلى "المكون السني"، وكانوا يتمنون ويطالبون بأن تكون من حصة "المكون الشيعي"، يفسرون ما حدث بأن مسؤوليهم قد "تخلوا" عنها إرضاءاً لـ "المكون السني" و تحت ضغطه. لكن هل هذا تفسير واقعي؟ وهل كان "المكون الشيعي" الذي يقف وراء حكومة العبادي يريد فعلاً أن يحصل على تلك الهيئة، لكنه "تنازل" عنها تحت الضغط؟
لنتذكر أن العبادي جاء بمشروع يلزمه، مقابل إيصاله إلى الحكم، بالعفو عن البعثيين ووضع الضباط الكبار منهم من المستبعدين من قبل تلك الهيئة على قيادة الجيش المجزء الذي يراد له تجزئة وفصل المحافظات العراقية. ولنتذكر أن مثل هذا المشروع يجابه من المعارضة القوية من قبل الشعب كله عموماً، وبالتأكيد من "المكون الشيعي" الذي ينتمي إليه العبادي. فهل لو كنت مكانه ومكان من يحيط به، ستريد أن تكون مسؤولاً عن تلك الهيئة، وتضع نفسك في مساءلة مباشرة عن التغيير الذي يطالب به الأمريكان؟ إن تسليم الهيئة لـ "المكون السني" أو بالأحرى العملاء السنة للأمريكان، هو الحل الأسلم لك. صحيح أنك ستتهم بالتخاذل و "خيانة دماء شهداء الإنتفاضة" و "نسيان المقابر الجماعية" حين توافق على القرارات التي ستتخذها الهيئة تحت سلطة "المكون السني"، لكن ذلك، ومهما كان صعباً سيبقى أسهل بكثير من أن تقوم بالتغيير بنفسك وتسجل الخيانة باسمك مباشرة بدلاً من تهم "التخاذل" و "الإنبطاح".
وهكذا نرى أن الحديث بعبارات "المكون السني" و "المكون الشيعي" لم تسهل علينا تحليل ما يجري، ولم تساعدنا لا على تمييز مصالحنا ولا على توقع الأحداث ولا على تفسيرها، فمن المناقض للمنطق توقع أن يقوم "المكون الشيعي" بالترحيب بقتلة أبطال الإنتفاضة الشيعة، وهو لا يساعد على تفسير هذا الفعل.
إذن فخطوط "المكون السني" و "المكون الشيعي" و "المكون الكردي" لا تمثل "خارطة" مفيدة للفرد ولا تساعده أن يقرر متى "يفرح" أو "يحزن" عند تقسيم الهيئات أو غيرها من السلطات ولا على توقع نتائج ذلك. فعلى العكس من الإفتراض بأن الذي فرح بحصول العبادي على السلطة هو "المكون الشيعي" الذي يمثله، فإن المراقب يرى بوضوح أن الذي فرح وتحققت مصالحه هم الكرد بالدرجة الأولى، وربما ساسة السنة بالدرجة الثانية، وليس "المكون الشيعي" أبداً!
خطوط أخرى: خياراتي أنا
إذن هذه الخطوط لا تقدم لنا خارطة مفيدة، ويجب البحث عن خطوط أخرى تتيح لنا رؤية مصالحنا بشكل أفضل، فما هي تلك الخطوط؟
هذه الخطوط تختلف من شخص لآخر، ولذلك لا أستطيع أن أخبرك إلا بخطوطي أنا، والطريقة التي اتبعتها للوصول إليها، ولك أن تبحث عن خطوطك أنت. بالنسبة لي، ووفق قناعتي بأن الصراع في العراق هو بين "الشعب" من جهة و "أميركا" وملحقاتها، من الجهة الأخرى، وأن معسكر أميركا – إسرائيل وعملائهما، له أجندة تدميرية للعراق، وأنه هو وليس أي من الطائفتين الشيعية أو السنية وراء الغالبية الساحقة من مصائبنا الحالية، وأنه "منظم" للنواقص ونقاط الخلل في البلد وفي الشعب، ويقوم بإمكانياته بتحويل تلك النقاط إلى كوارث ، فإني أرى أن من يتحدث عن التقسيم على "المكون السني" و "المكون الشيعي" يريد أن يخدعني (أو هو مخدوع)، وأرى أن التقسيم المفيد الذي يعينني عل رؤية مصالحي ويفصل رفاقي الذين لهم مصالح مشتركة معي، عن اعدائي، هو الخط الفاصل بين "مكون الشعب – بكل طوائفه" من جهة مقابل "مكون أميركا" من الجهة الأخرى! فهذا الأخير ومن معه يمثلون "مكون" أعدائي، الذين لا أريد أن يحصلوا على اية هيئة أو اية سلطة، سواء وزعوها على عملائهم المنفذين من السنة أو الشيعة أو الكرد، لأن لا يغير شيئاً في الأمر بالنسبة لي. فلا استطيع أن ارى الفرق في الضرر بمصالحي إن حصل جماعة المجلس الأعلى أو جماعة النجيفي على الهيئات أو أية سلطة أخرى رغم أنهما من "مكونين" مختلفين حسب التقسيم القديم ، لكني أرى فرقاً كبيراً في مصالحي بين ان يحصل المجلس الأعلى وأن تحصل عليها كتلة حنان الفتلاوي، وهما من "مكون" واحد، حسب ذلك التقسيم! لذلك فإني أرفع الخط الفاصل بين النجيفي والمجلس الأعلى وأضعه بين إرادة حنان الفتلاوي والمجلس الأعلى، فيحقق ذلك الخط الهدف منه.
هل يساعدني هذا التقسيم على توقع القرارات وتحليلها أيضا بشكل أفضل من تعابير "المكون السني" و "المكون الشيعي" ويقلل المفاجآت والحيرة في تفسير النتائج؟ نعم لأنه عندذاك تتصرف الأجزاء التي خلف الخط بشكل منسجم مثلما تتصرف ما قبل الخط بشكل منسجم أيضاً، فتزول الحيرة من التناقض بين الإسم والتصرف المنتظرمنه. فإعطاء هيئة المساءلة إلى "اصدقاء أميركا" السنة لا يختلف عن إعطاءها للعبادي، لأنهم والعبادي في قسم واحد حسب الخارطة الجديدة، ولهم مصالح واحدة. ولا يصعب هنا تفسير إعطاء العبادي لهيئة المساءلة إلى هؤلاء السنة لأنهم الجزء الأكثر قدرة على تنفيذ الشروط الأمريكية من زميلهم الذي ينتمي إلى معسكرهم، رغم أنه ينتمي شكلياً إلى "المكون الشيعي". وسبب قدرتهم على التنفيذ أنهم لن يتعرضوا لضغوط شعبية أو حزبية كتلك التي يتعرض لها العبادي أو حزبه لو قام بنفس العمل بنفسه. إذن فهو تقسيم للعمل بين أعضاء كتلة واحدة حسب ما تتيحه ظروف كل عضو وتجعله أكثر كفاءة في تنفيذ هذا الأمر أو ذاك، وليس في ذلك أمر غريب.
إذن هذا التقسيم وهذه الخطوط مفيدة بالنسبة لي، وقد يكون الأمر مختلفاً بالنسبة لك، لكن كل منا يجب أن يبحث عن الخطوط والفواصل التي ترسم له حدود مصالحه، ولا توجد قاعدة لذلك لكني حاولت أن أبين طريقة البحث. لكننا رأينا أن الخطوط الطائفية والقومية لا تمثل تلك المصالح بأي شكل من الأشكال، وأنها خدعة من جهة تتناقض مصالحها مع مصالحنا، وهي تشوش علينا المشهد بدل مساعدتنا. وهذا لم يكن بالصدفة أو عن طريق الخطأ، فالجهة التي اقترحت هذه الخطوط تسعى إلى أن تحصل على أكبر حصة لنفسها، بجعل منافسيها يتخبطون في خطوط وهمية وتقسيمات مضللة تعميهم طويلا عن مصالحهم وتزيد أخطاءهم.
ستكون هناك مقالة ثانية حول هذه المفاهيم وتمويهها الفرق بين الإنسان وبين العضو في القطيع.
(1) التحالف الوطني يستحوذ على “حصة الأسد” من الهيئات المستقلة http://www.newsabah.com/wp/newspaper/31172 (2) باقر شاكر: إنها قسمة ضيزى في الهيئات المستقلة http://www.akhbaar.org/home/2015/3/187351.html (3) بخلاف المطالب الوطنية.. المحاصصة "تفوز" برئاسات الهيئات المستقلة ! http://www.iraqicp.com/index.php/sections/society/26341-2015-03-18-19-49-07 (4) المالكي يخص لـ"الاتجاه برس" بتفاصيل وأسماء رئاسات الهيئات المستقلة http://aletejahtv.org/index.php/permalink/50949.html نكبة وطنية جديدة على يد حكومة شراكة الأقوياء … أياد السماوي http://www.iraqmidea.com/?p=5480 (5) باسم العوادي - صور اليوميات (6) د. حنان الفتلاوي |