الحرية .. كلمة كنّا ونحن صغار نسمعهم يردّدون في أذكارهم ( الله حيّ ) . هو الحيّ الباقي واجب الوجود . فنقول مثلهم ، ونحشر أنفسنا في صفوفهم ، وندور حول أنفسنا ، ولمّا كبرنا وقرأنا كتب الفلسفة وأبحرنا في قراءتها ، وجدنا أنها من طاليس إلى ديكارت لا تزيد عن كلمتين اثنتين لا ثالث لهما : الوجود موجود . وعشنا زمناً سمعنا عن الشوق ، والشوق معناه الوصول إلى التسامي في العلياء ، ونحن نقرأ للإمام البوصيري : يا لائمي في الهوى العذريّ معذرة كفّ الملام فلو أحببت لم تلم ِ وكنّا نترنّم بقصيدة سلطان العارفين والعاشقين الشيخ عمر بن الفارض في قوله : يا لائماً لامني في حبّهم سفهاً كفّ الملامَ فلو أحببتَ لم تلم ِ ونتسامى في الشوق ونحن نتلو من روائع أحمد شوقي : يا لائمي في هواه والهوى قدرٌ لو شفّك الوجد لم تعذلْ ولم تلم ِ وفي السنوات الخوالي حضرت مجالسهم . التقيت شيوخهم ومريديهم . سمعت منهم حكايات عن الوليّ الذي طار في الهواء ، وروايات عن شيخ جلس فوق عباءته فعبر النهر . رأيتهم يخرجون بأيديهم المجرّدة اللهب من المواقد المستعرة فيحملونه فوق رؤوسهم ، وينهض آخرون منهم يدورون حول أنفسهم يتمتمون بكلمات من رموز لا أفهمها ، ولا يفهمها غيري . ووجدت في قصصهم العجب والأعاجيب . رأيت أحد المريدين في التكية يدور حول نفسه نحو ساعتين دون توقف حتى سقط مغشيّاً عليه من الوجد ، ولم يقترب منه أحد ، وكان ينشد : ( قلبي يُحدّثني بأنك متلفي / روحي فداك عرفت أم لم تعرف ِ ) . فمن أين لهذا المخلوق كلّ هذه الطاقات والغرائب ؟. هل هي موهبة ؟ هل هي مصادفة ؟ هل هي من الخوارق ؟ من الكرامات ؟ وهم من أوهام الحواس ، أم أنها من قانون الاحتمالات ؟. ليس هناك أجمل من صحبتهم . إنهم شهود على اللوعة في حضرة من يحبّون ، يقولون كلاماً بالرمز وبالتأويل وبالإيماء وبالصمت ، فتتعطّل لغة الكلام ، وينشدون مثل طيور تغرّد على أغصانها . تحرّكهم أشواق وهواتف ، ويتسلطنون في الإنشاد حدّ النشوة ، ويهيمون ويشتاقون في الليل الساكن حتى يغلبهم الشوق إلى مناجاة الحبيب ، فينسون مركز الكون ، ويمزّقون خرائط الضياع في لحظات من اللذة والبهجة والأمداد والأحوال !. إنها متعة أن تجلس مجالسهم وتتأمّلهم ، تستمع إلى منشدهم ، ما أن يرتفع صوته بالمقامات والتراتيل على نقر الدفوف حتى تراهم ينهضون واقفين . يشرعون بالدوران حول أنفسهم . دوران حتى النهاية . رؤوسهم آخذة بالترنّح ، وظهورهم بالانحناء ، وأطرافهم بالارتعاش ، وهم يعتصرون عيونهم بقلوبهم لا بأيديهم ، حتى تهطل دموعهم !. وتتعطل لغة الكلام إلا من طيف كلام يحلّ محلّ طيف المنام !.
|