مدافع أم البنين

للحرب وقعٌ مؤثرٌ في الذكريات ، ويبدو أن المكان الذي لا تلمسهُ أصابع الحرب لن يكون قادرا على صنع البحة الساحرة في النواح ، ويوم ذهب شباب من القرية الى جبهات الحرب ، سكنت وجوه الاباء ملامح جديدة لم أراها من قبل ، ومنها تلك الصفنة الطويلة ونسيان أن الجواميس أصابها الملل من قيلولتها الطويلة في الماء وتريد العودة الى زريبتها.

أنا ذقتها ، وغيري ذاقها ، وتعلمت منها ، لكنها لم تتعلم مني ، ولأنني مثل خالي المرحوم ( جهاد سهر أذهيب ) العريف المطوع في كتيبة مدفعية الميدان 51 التابعة للفرقة الثانية مشاة  ، أتت بي قرعة معسكر التاجي الى صنف المدفعية ، خدمتها وتسرحت منها وتعينت معلما بعدها ولم يبق من ذكرياتها سوى نخوة الجنود وهم يحملون صناديق القذائف الثقيلة وينتخون بأم البنين لتعينهم في حملها ، ليكون رد العريف عطشان : أم البنين لديها ما يكفيها وهي تبحث عن من يعينها لقد فقدت اربعة ابناء من اجل الحسين ع ، حرب السيوف سلبت ابناءها فلا تريد لحرب المدافع أن تسلب ابناء من امهات أخريات .

أتت حرب جديدة ، ومعها أتت خواطر جديدة وقصص جديدة ، ومنها حين أتى واحد من ابناء ريكان موظف الخدمة في مدرستنا مجازا من جبهة عبدان وكانت الحرب تعيش فوران ايامها الاولى ، فتحدث عن أسير ايراني طلب منه الماء ويتكلم العربية ، وقال انه من اهالي ديزفول ويعمل مخابرا لبطرية مدافع ميدان في كتيبة أسمها أم البنين .

يومها تذكرت الجنود الذين ينتخون هذه المرأة الصابرة ، وحين يأتي عاشوراء يذهبون مباشرة الى اذاعة عربية تبث من الاهواز تذيع نواحا عاشوريا لرادود مشهور اسمه ( وطن ) وقصيدته المشهورة بين الجنود اكثر شهرة بكثير من نشيد سلمان المنكوب الاسطوري ( امرن في المنازل ..منازلهم خلية ) ، ورثائية وطن هي :

 آنه أم البنين ودهري ذبني ..

حقي لو صحت يا حسين يبني .

فقد الأربعة يهون

وحسين الذي سَباني )

أذن لدينا أم البنين اثنتين ، واحدهم عندنا وثانية عندهم ، وهي في الحقيقة أن هناك أم بنين واحدة وتحتار الآن لمن تعين الجندي العراقي أم الجندي الايراني.

تلك الحيرة أبقت فيَّ حزن أن نزج صناع حزننا الخفي في آتون السياسة واحلام الجنرالات ونجلبهم معنا الى جبهات القتال بالرغم أن حروبهم انتهت منذ مئات السنين ولم يبق لنا منهم سوى الاضرحة وقباب الذهب ونخوة الجنود بهم حين يريدون رفع صندوق عتاد وزنه خمسين كيلو غرام.

عاد ولد ريكان ، ونذرت أمه لأم البنين عجل تشتريه من الجبايش وتذهب به الى مقام العلوية ( فواده أم هاشم ) تذبحه هناك وتوزع لحمه الى الزائرين .

لكن ربما في غمرة النحيب الذي يسكن أم البنين من اجل فجيعتها بأولادها الاربع أتت قذيفة مدفع وسقطت على الخندق الشقي الذي يتمترس فيه ولد ريكان فذبحته من الوريد الى الوريد . وربما هذه القذيفة آتية من مدفع من مدافع الكتيبة الإيرانية التي اسمها ( أم البنين.)