كم سيكون مفيدا لو درس باحث عراقي سايكولوجيا الجمهور السياسي عندنا، المادة متوفرة بكثرة، وإن لم تكن له القدرة على الشروع بها ميدانيا، أو منعته دواع أمنية مثلا، فالانترنت يتيح له رؤية جمهور عريض في فيسبوك.
سايكولوجيا الحشد يمكن تلمس ملامحها في التجمعات السياسية العامة، في التظاهرات والاعتصامات وما أكثرها في العراق، كما هي موجودة على الشاشة الضوئية التي أصبحت صفحات العراقيين فيها تظاهرات مصغرة، فهنا حشد موال للحكومة وآخر معارض، حشد داع إلى المقاومة وآخر سلمي، حشود طائفية غالبا، وبعضها مناهض لكل ما هو طائفي.
الحشد بلا عقل، لأنه لا يفكر ولا يتأمل، إذ التأمل والتفكير سمتا الفرد لا الجماعة، ويخطئ من يظن أن الحشد حاصل مجموعة أفراد وحسب، لأن الفرد إذا دخل في حشد فقد فرديته، تخلى طوعا عن استقلاليته وعن قدرته على أن يكون له رأي يخصه هو وحده.
في التظاهرات الغاضبة يكفي لصوت واحد أن يزعق "سلمية سلمية" ليمتلئ الفضاء بأصوات تردد الكلمة، فإذا صرخ صوت "حربية حربية" سترى الآخرين منقادين بحماسة التابعين إلى مجاراة الحشود مخافة أن يكونوا شاذين، خارج السياق.
عقل غير عقلاني يسيّر الجموع، إذا آمنا مع ماركس بأن هناك استخداما غير عقلاني للعقل، عقل واحد لكنه لا يخص أحدا بعينه من الحاضرين هو ما يملي عليهم أن يكونوا مجرد أدوات طوعَ أمر الغريزة المولدة للهياج أو للعنف أحيانا.
عقلية الحشد تناسب مجتمعنا تماما، فهو يكره الفردية والانفراد، حتى في الموارد التي توجب على المرء أن يكون مطلق الحرية نلوذ بأب أو أخ أكبر، حتى في الانتخابات مثلا أو في اختيار خط سياسي نروح نستفتي المراجع لنعرف أين يجب أن تذهب أصواتنا، وإن لم نستفتِ أحدا فنحن ندرك سلفا أين هوى طائفتنا، وما الوجهة التي تضمن أن تدخلنا في الإجماع، وأن نندك في الجماعة لنمحق أي فرادة ممكنة لنا. جمهورنا السياسي بلا رأي سوى ما تراه طائفته، سوى ما يراه رمزه أو مرجعه. وسياسة بلا رأي ليست في الحقيقة سوى قوى تنتج باستمرار وتكرس قوى ما قبل الدولة "الطائفة والعشيرة والدين والعرق"، وأن ننقل إلى المؤسسة كل أمراض هذه القوى وبدائيتها ونزاعاتها واشتراطاتها التي لحمتها الهياج وسداها العنف.
أفكر بمن يوالون الحكومة فلا أراهم يستطيعون ذكر مكرمة واحدة لها ومع ذلك يجتهدون في جعلها ورئيسها صمدا لا يمسسهما باطل، كما أفكر بمن يعارضون المالكي فلا أجد لدى كثير منهم سوى روحية مشجعي كرة القدم الذين يساندون فريقهم جيدا كان أم سيئا، خاسرا أو منتصرا.
محنتنا اننا ليس لدينا أفراد. قيمة كل واحد منا تحددها الجماعة التي ينتمي لها، أو يهبها له المرجع. قلة هم الذين تجردوا من الطائفة والدين والقومية في تكوين رأيهم السياسي، وأقل منهم من لا يشعر بحاجة إلى أب أو أخ أكبر أو مرجع أو صنم يهتف باسمه في حشد يمنح الإنسان قوة تخلى عنها طواعية حين فقد فردانيته.