كنت شيوعيا

 

عذراً إن استخدمت نفس العنوان (السيئ) الذي كتب تحته بدر شاكر السياب أربعين مقالة ضد الحزب الشيوعي العراقي عام 1959، ونشرها آنذاك في جريدة الحرية، التي كان يرأس تحريرها قاسم حمودي، القومي المعروف بعدائه للشيوعية، وهو بالمناسبة والد جعفر قاسم حمودي عضو القيادة القطرية في حزب البعث العراقي.. ولا أريد هنا أن أتحدث عن هذه المقالات التافهة شكلاً ومضموناً، ولا أود أن أعرِّف بمحتواها المتدني، ولا بمقاصدها الرخيصة، إذ يكفيها (شرفاً)، ان البعثيين القتلة، والقوميين المتآمرين، وأعداء ثورة الرابع عشر من تموز هم الذين وقفوا خلفها واحتضنوها بل أنهم، وليس غيرهم من جمعها، وطبعها، في كراس حمل ذات الاسم..
دعونا اليوم نترك أمر تلك المقالات المكتوبة بلغة الحقد والغيرة والعقد النفسية، ونذهب الى حيث يحتفل الشيوعيون العراقيون، وجماهيرهم بعيد تأسيس (عميد) القوى الوطنية، ورائد النضال الوطني، أقصد الحزب الشيوعي العراقي، الذي يضيء الليلة إحدى وثمانين شمعة ملونة بالفخر والزهو والمجد والتضحيات.
وإذا كان الشيوعيون يحتفلون اليوم مرة واحدة فقط، فأنا أحتفل اليوم مرتين، مرة معهم بعيد التأسيس المجيد، ومرة بمناسبة حصولي على العضوية في الحزب الشيوعي العراقي في مثل هذا اليوم قبل واحد وأربعين عاماً.. فأتذكر بفخر ذلك اليوم البهي الذي صافحني فيه مسؤولي الحزبي (الرفيق المناضل رحيم الشيخ علي)، أطال الله في عمره، وقدم لي بطاقة العضوية مهنئاً، ومباركاً. وقد ضمت تلك البطاقة وصايا المؤسس فهد العشر، وفيها أيضاً اسمي الحزبي (عبد الأمير)، الذي اخترته اعتزازاً بنضال الشهيد البطل عبد الأمير سعيد. 
وإذا كنت قد غادرت الحزب من الناحية التنظيمية قبل أكثر من ثلاثين عاماً، فإني بقيت مخلصاً ووفياً لمبادئ الحزب العظيمة. وروحي ترفرف كالحمامة البيضاء كلما ذكر اسم الحزب الشيوعي أمامها.. فلهذا الحزب فضل عظيم عليَّ، فقد كان بمثابة الأب الذي تعلمت منه خصال الخير والحب والجمال، والمدرسة التي تعلمت فيها حروف النضال والشجاعة والصمود.. وفي هذا الحزب تعلمت كذلك أبجدية الشعر والثقافة، والصحافة، ومن سطوعه توهجت روحي الفتية بمصابيح المعرفة، وتعطرت مساماتي بأريج الفكر الأممي الإنساني حتى (صار كل إنسان بالدنيا صديقي)!! 
نعم لقد صرت أكثر وطنية حين صرت شيوعياً، ألم يقل الخالد فهد بأنه أصبح أكثر وطنية حين صار شيوعياً..؟
نعم لقد كنت شيوعياً وأتشرف بذلك، وسأظل على العهد حتى اللحظة الأخيرة من حياتي..
لن أخونه، ولن أبيعه، ولا أتنازل عن محبته مهما كانت التضحيات.. 
فالشيوعي العراقي وكما يعرف الجميع اليوم، هو أروع مثال للنزاهة، والشرف، والوطنية العالية، حتى تحدث عن ذلك الأعداء قبل الأصدقاء..
دلوني على شيوعي واحد (مو نزيه).. أو أعطوني اسم شيوعي واحد لا يحب العراق، ولا يموت من أجله..
بل هاتوا لي اسم شيوعية واحدة لا تشتري العراق بمهجتها الغالية، ولا تفديه بنور عينيها.
لقد كنت شيوعياً.. وأفخر في ذلك، وأسمحوا لي ان أطرح الفرق الذي بيني وبين بدر شاكر السياب - الذي كان شيوعياً أيضاً، وحتماً فإن ثمة عشرات الآلاف من الشيوعيين العراقيين الذين غادروا الحزب مثلي- وقطعاً فإن الفرق بيننا كبير وواسع، فالسياب تنكر لقيم الحزب، بمجرد أن غادره، وافترى على تاريخه ومبادئه الوطنية لأسباب شخصية بحتة، فحاول جاهداً تشويه سمعة رفاقه ورفيقاته في الحزب بما لا يمكن أن يصدق، بينما بقينا نحن محافظين على حبنا للحزب رغم كل الظروف القاهرة التي مررنا بها.. وظل الحزب الشيوعي في حدقات عيوننا، دون منافس..
نعم..! فطيلة أربعين عاماً وأنا لم أتخلف عاماً واحداً عن الاحتفال بمولد الحزب، فاحتفل بمولده في كل زمان ومكان حتى بات تقليداً عائلياً وليس شخصياً لي فحسب.. لقد أحتفلت بعيد مولد الحزب، وأنا جندي في الجيش رغم الخطورة القاتلة، وقد حدث ذلك في ليلة 31 آذار من عام 1983، بصحبة الشاعر الراحل كاظم اسماعيل الكاطع، والمناضل الشيوعي جابر السوداني، وأحتفلت بمولده في الأردن مع الأديبين العزيزين ناجح المعموري وجاسم عاصي وحشد من أصدقاء الحزب، واحتفلت به لسنوات عدة في أمريكا مع الأحبة خيون التميمي ونبيل رومايا وغيرهم من أصدقاء للحزب، واحتفلت به في السجن مع علي رستم وحميد حسين العقابي وحشد من أصدقاء الحزب، واحتفلت به لوحدي وأنا في المستشفى، منشداً: (سالم حزبنا سالم حزبنا)!! ثم مع زوجتي وأطفالي وشموع ميلاد الحزب التي أضيؤها ليلة الحادي والثلاثين من آذار، وسؤال زوجتي المتكرر: (هل يعرف الحزب الآن أنك تحتفل بميلاده)؟!
واليوم وأنا أسخِّر جريدتي (الحقيقة) ومجلة (كل الناس) إضافة الى وكالتنا (وكالة البريق الأخبارية) لخدمة الحزب، وجماهير الحزب، وثقافة الحزب، رغم كل الإساءات التي تصلنا أحياناً من (بعض الرفاق)، ورغم (تقاعدي) عن العمل في صفوفه منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فأنا ومعي في هذا الجهد النبيل حشد من الزملاء الوطنيين التقدميين، يأتي في مقدمتهم الشاعر الوطني، والزميل العزيز عدنان الفضلي.. وأسماء رائعة أخرى، نفخر بما نقدم من جهد، ونتباهى بمحبة الناس، وبتقدير قيادة الحزب لنا جميعاً.. وأفخر أنا شخصياً بموقف كان قد حدث لي مع أحد (أدعياء الدين)، الذي يملك مصرفاً كبيراً في بغداد، حيث سألني هذا الأخ وأنا أعرض عليه طلب الإعلان في مجلتنا، فقال لي:
(فالح أنت شيوعي)؟
فقلت له ضاحكاً: كنت شيوعياً!!
فقال: يعني كنت شيوعي، مو هسه؟
لعد ليش ذابح روحك على الحزب، وكل يوم حاط بجريدتك ومجلتك صورة لفهد، وصورة لسلام عادل؟
وقبل أن أجيبه، أكمل حديثه قائلاً: والله يا فالح آني شخصياً أحبك، بس تدري آني مو وحدي بالمصرف، عندي شركاء ما يحبون هاي الأشياء، ولا يريدون يشوفون هاي الصور – وقد وضع أصبعه على صورة سلام عادل – فإذا تتعهد بعد ما تطلع صورهم بالمجلة، آني مستعد أنشر اعلانات بالمجلة والجريدة.. اما إذا.. 
وقبل ان يكمل شرطه، نهضت وانا أسحب المجلة من بين يديه، وأغادر مكتبه الفخم قائلاً:
- أنطي إعلاناتك حجي لغير مجلة، أحنه مبيوعين!
فقال ضاحكاً: المن بويه مبيوعين؟
قلت له: مبيوعين للحزب الشيوعي العراقي!